بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً تاريخه وأسبابه:
في يوم الاثنين الأول من ذي القعدة سنة 6هـ(1) خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المدينة متوجها بأصحابه إلى مكة لأداء العمرة(2)، وسبب هذه الغزوة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رؤيا في منامه وهو في المدينة، وتتلخص هذه الرؤيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أنه قد دخل مكة مع أصحابه المسلمين محرمًا مؤديًا للعمرة، وقد ساق الهدي معظمًا للبيت مقدسًا له، فبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ففرحوا بها(3) فرحًا عظيمًا، فقد طال عهدهم بمكة والكعبة التي رضعوا بلبان حبها ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلا ارتباطًا بها وشوقًا إليها، وقد تاقت نفوسهم إلى الطواف حولها، وتطلعت إليها تطلعًا شديدًا، وكان المهاجرون أشدهم حنينًا إلى مكة، فقد ولدوا ونشأوا فيها وأحبوها حبًّا شديدًا، وقد حيل بينهم وبينها، فلما أخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، تهيأوا لتلك الزيارة العظيمة(4)، واستنفر - صلى الله عليه وسلم - أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معهº لأنه كان يخشى أن تصده قريش عن البيت الحرام، وكانت استخبارات المدينة قد علمت بأمر التحالف العسكري الذي عقد بين قريش في جنوب المدينة المنورة وخيبر في شمالها، وكان هدف هذا التحالف جعل الدولة الإسلامية بين طرفي الكماشة، ثم إطباق فكيها عليها وإنهاء الوجود الإسلامي فيها، فقد حان الوقت لكسر ذلك التحالف سياسيًّا، فقد كانت الكعبة في نظر العرب قاطبة ليست ملكًا لقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل، ولهذا فليس من حق قريش أن تمنع من زيارتها من تشاء، وتجيز من تشاء، فإذن من حق محمد وأصحابه زيارة الكعبة(5).
وانتشر خبر خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين قبائل العرب، وكان انتشار الخبر له أثر في الرأي العام، وخصوصًا بعدما أكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يريد حربًا، وإنّما يريد أن يعتمر ويعظم شعائر الله، وحقق هذا الفعل الكريم مكاسب إعلامية رفيعة المستوى، وقد كان هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - معلنًا ألا وهو زيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة، فتجرد هو وأصحابه من المخيط، ولبسوا ثياب الإحرام، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة بعد أن قلد الهدي وأشعره(6). وقد كان - صلى الله عليه وسلم - على جانب كبير من الحيطة والحذر، فقد أرسل بشر بن سفيان الخزاعي عينًا له(7)، وقدم بين يديه طليعة استكشافية مكونة من عشرين رجلاً، وفي ذلك يقول الواقدي: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عباد بن بشر فقدمه أمامه طليعة في خيل المسلمين من عشرين فارسًا، وكان فيها رجال من المهاجرين والأنصار)(8) وكان هدفه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الاستعداد للطوارئ التي يمكن أن يفاجأ بها، وأيضا فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خبر العدو(9).
وأخذ - صلى الله عليه وسلم - بمشورة عمر في ذي الحليفة عندما قال له: يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع؟ فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة من يحمل له الكراع والسلاح(10)، وكان قصده - صلى الله عليه وسلم - من ذلك: الاستعداد لهؤلاء الأعداء، الذين يملكون السلاح والعتاد ما يستطيعون به إلحاق الأذى بالمسلمين والنيل منهم(11)، وهذا التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب من هديه الكريم الذي جعله لأمته لتقتدي به من بعده - صلى الله عليه وسلم -، لما في ذلك من المصالح الكثيرة، ولما فيه من درء مكايد الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر(12).
ثانيًا: وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان:
لما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي الخزاعي، فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ومعها العوذ المطافيل(13)، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا ويح (14) قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون (15)، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهر الله له أو تنفرد هذه السالفة»(16). وقد استشار - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لما بلغه خبر استعداد قريش لصده عن دخول البيت الحرام، وعرض - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة -رضي الله عنهم- المشورة في هذا الأمر على رأيين يحملان العزم والتصميم:
1- الميل إلى عيال وذراري الأحابيش الذين خرجوا لمعاونة قريش على مقاتلة المسلمين وصدهم عن البيت.
2- قصد البيت الحرام، فمن صده عنه قاتله حتى يتمكن من تحقيق هدفه(17). ولما عرض - صلى الله عليه وسلم - المشورة في هذا الأمر على الصحابة تقدم أبو بكر الصديق برأيه الذي تدعمه الحجة الواضحة، حيث أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بترك قتالهم والاستمرار على ما خرج له من أداء العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فاستحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الرأي، وأخذ به وأمر الناس أن يمضوا في هذا السبيل(18). وعندما اقتربت خيل المشركين من المسلمين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.
ثالثًا: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغير الطريق وينزل بالحديبية:
ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قريشًا قد خرجت تعترض طريقه وتنصب كمينًا له ولأصحابه بقيادة خالد بن الوليد، وهو لم يقرر المصادمة، رأى أن يغير طريق الجيش الإسلامي تفاديًا للصدام مع المشركين، فقال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ » فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرًا بين شعاب شق على المسلمين السير فيه حتى خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، وعند ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك. فقال: «والله إنها الحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها»(19).
فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش في طريق تخرجه إلى ثنية المرار، مهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق بخفة ودون أن يشعر به أحد، فما نظر خالد إلا وقترة(20) جيش المسلمين قد ثارت، فعاد مسرعًا هو ومن معه إلى مكة يحذر أهلها، ويأمرهم بالاستعداد لهذا الحدث المفاجئ(21)، وقد أصاب الذعر المشركين وفوجئوا بنزول الجيش الإسلامي بالحديبية حيث تعرضت مكة للخطر، وأصبحت مهددة من المسلمين تهديدًا مباشرًا(22).
يقول اللواء محمود شيت في هذا الدرس الرائع:
لم تكن حركة المسلمين على هذا الطريق خوفًا من قوات الجيش، فالذي يخاف من عدوه لا يقترب من قاعدته(23) الأصلية، وهي مركز قواته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو الأصلية حتى يطيل خط مواصلات العدو، وبذلك يزيد من صعوباته ومشاكله، ويجعل فرصة النصر أمامه أقل من حالة الاقتراب من قاعدته الأصلية(24).
وقد جاء في كتاب (اقتباس النظام العسكري في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -) ما بيَّن الحكمة من تغيير الطرق ما نصه: ويؤخذ من اتخاذ الأدلة والتحول إلى الطرق الآمنة أن القيادة الواعية البصيرة، تسلك في سيرها بالجيش طرقًا بعيدة عن المخاطر والمهالك وتتجنب الدروب التي تجعل الجيش خاضعًا تحت تصرفات العدو وهجماته(25).
رابعًا: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل:
وعندما اقترب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، بركت ناقته القصواء، فقال الصحابة - رضي الله عنهم -: خلأت القصواء(26)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»، ثم قال: «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها»(27) ثم زجرها فوثبت ثم عدل عن دخول مكة، وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد بئر- قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش، فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها، فجاش لهم بالري فارتووا جميعا(28)، وفي رواية أنه جلس على شفة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر(29). ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعا، كما ذكر ابن حجر(30)، ويؤيده ما ذكره الواقدي(31)، وعروة(32) من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تمضمض في دلو وصبه في البئر، ونزع سهمًا من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت(33).
وفي بروك ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقسمه بعد ذلك دروس وعبرمنها:
1- كل شيء في هذا الكون يسير بأمر الله ومشيئته، ولا يخرج في سيره عن مشيئته وإرادته، فتأمل في ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين بركت، وكيف كره الصحابة بروكها وحاولوا إنهاضها لتستمر في سيرها فيستمروا في سيرهم إلى البيت العتيق مهما كانت النتائج، ولكن الله - سبحانه وتعالى - أراد غير ذلك(34).
2- وقد استنبط ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - فائدة جليلة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «حبسها حابس الفيل»(35) فقال: وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصةº لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقًا، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره(36).
3- ومن الفوائد أن المشركين وأهل البدع والفجور، والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرًا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله - تعالى -، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله - تعالى -، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ, لله - تعالى -مُرضٍ, له، أجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لا يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضيع وأصعبها، وأشقها على النفوس(37).
4- إن الله - سبحانه وتعالى -، جلت قدرته، وعزت عظمته، قضى ألا يكون قتال بين المسلمين والمشركين من أهل مكة في هذه الغزوة بالذاتº لحكم ظهرت فيما بعد منها:
أ- دخول المسلمين بالقوة يعني أن تحدث مذابح، وتزهق أرواح كثيرة، وتسفك دماء غزيرة من الطرفين، وهذا أمر لم يرده الباري - سبحانه -، وكان لمصلحة الفريقين المؤمنين والمشركين.
ب- إن من المحتمل أن ينال الأذى والقتل والتشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من إخوانهم من المسلمين في مكة، وهذا فيه ما فيه من المعرة التي لا يليق بمسلم أن يقع فيها، قال - سبحانه -: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدٌّوكُم عَنِ المَسجِدِ الحَرَامِ وَالهَديَ مَعكُوفًا أَن يَبلُغَ مَحِلَّهُ وَلَولاَ رِجَالٌ مٌّؤمِنُونَ وَنِسَاءٌ مٌّؤمِنَاتٌ لَّم تَعلَمُوهُم أَن تَطَؤُوهُم فَتُصِيبَكم مِّنهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيرِ عِلمٍ, لِّيُدخِلَ اللهُ فِي رَحمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَو تَزَيَّلُوا لَعَذَّبنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح: 25].
ج- لقد سبق في علم الله - عز وجل - أن هؤلاء الذين يقفون اليوم صادين رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم عن المسجد الحرام، هم الذين سيفتح قلوبهم إلى الإسلام، ويستفتح الله على أيديهم بلادًا كثيرة، حين يحملون هذه الرسالة للناس، وينيرون ظلمة الطريق للمدلجين(38).
خامسًا: السفارة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش:
بذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حربًا معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه وهو حق للمسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه، ويتعرف على قوة المسلمين ومدى عزمهم على القتال إذا أُلجئوا إليه، وطمعًا في صد المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهة ثالثة(39).
1- ركب من خزاعة بقيادة بُدَيل بن ورقاء:
جاء بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة(40) نصح رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة، وبينوا أن قريشًا تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبب مجيئه، وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب، ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش(41)، وقالوا لهم: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، إن محمدًا لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرًا هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها علينا عنوة أبدًا ولا تتحدث بذلك العرب(42). وقد ظهرت براعة النبي - صلى الله عليه وسلم - السياسية في عرضه على مشركي مكة الهدنة والصلاحº لأن في ذلك فوائد كثيرة منها:
أ- فبالهدنة يضمن حياد قريش ويعزلها عن أي صراع يحدث في الجزيرة العربية، سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية الأخرى، أم مع اليهود ذلك العدو اللئيم الغادر الذي يتربص بالمسلمين الدوائر.
ب- حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يبقى الاتصال مفتوحًا بينه وبين قريش، ليسمع منهم ويسمعوا منه بواسطة الرسل، والسفراء، وفي هذا تقريب للنفوس وتبريد لجو الحرب، وإضعاف لحماسهم نحو القتال.
ج- حرص - صلى الله عليه وسلم - على أن تدرك خزاعة بقيادة بديل والركب الذي معه أن حليفهم قوي، فتزداد ثقتهم به وحلفهم له ولبني هاشم من قبل الإسلام، فقد بقي ولم يُلغَ، وتأكد في صلح الحديبية.
د- إن العقلاء الذين يفكرون بعقولهم حين يسمعون كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه جاء معظمًا للبيت، والمشركون يردونه، وهو يصر على تعظيمه، سيقف هؤلاء بجانبه ويتعاطفون معه فيقوى مركزه، ويضعُف مركز قريش الإعلامي والديني في نفوس الناس.
هـ- إن مشركي مكة لم يطمئنوا إلى كلام بديل الذي نقله إليهمº ذلك لأنهم يعلمون أن خزاعة كانت عيبة نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويشعرون بودّ خزاعة للرسول والمسلمين(43).
و- ويؤخذ من جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبديل بن ورقاء حسن التلطف في الوصول إلى الطاعات، وإن كانت غير واجبة، ما لم يكن ذلك ممنوعًا شرعًاº لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب المشركين لما طلبوا منه، ولم يظهر لهم ما في النفوس من البغض لهم والكراهية فيهم لطفًا منه - عليه السلام - فيما يؤمل من البلوغ إلى الطاعة التي خرج إليها(44).
2- سفارة عروة بن مسعود الثقفي:
لم تقبل قريش ما نقله بديل بن ورقاء الخزاعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جاء زائرًا للبيت ولم يأت مقاتلاً، واتهمتهم، بل وأسمعتهم ما يكرهون، فاقترح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويسمع منه، ثم يأتيهم بالخبر اليقين(45). وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه فقال:...فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ (46)، فلما بلحوا (47) عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من قوله لبديل(48)، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنني والله لا أرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا(49) من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، فقال أبو بكر: امصص بظر(50) اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ (51) فقال: من ذاك؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على المسلمين حربًا نفسية حتى يهزمهم معنويًّا، فاستخدم عنصر الإشاعة، ويظهر ذلك عندما لوح بقوة قريش العسكرية، معتمدًا على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لا محالة، وذلك بأن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين، وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، حاول ذلك من أجل التأثير على نفسيات المسلمين ولخدمة أهداف قريش العسكرية والإعلامية، وحاول أيضا أن يفتعل أزمة عسكرية كبيرة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجنوده من أجل التأثير على معنوياتهم وتحطيم عزائمهم، وهذا من أقوى أساليب الحرب النفسية التي استخدمت ضد المسلمين، أثناء تلك المفاوضات. وحاول عروة أن يثير الرعب وذلك بتخويف المسلمين من قوة قريش التي لا تقهر، وتصوير المعركة بأنها في غير صالحهم، لقد مارس عروة بن مسعود في مفاوضته عناصر الحرب النفسية من إشاعة وافتعال الأزمات وإثارة الرعب(52)، إلا أن تلك العناصر تحطمت أمام الإيمان العميق والتكوين الدقيق والصف الإسلامي المرصوص. ومن المفارقات الرائعة التي حصلت أثناء المفاوضات مع عروة بن مسعود وهي من عجائب الأحداث التي يستشف منها الدليل القاطع على قوة الإيمان التي كان يتمتع بها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى قدرة هذا الدين في تحويل الإنسان من شيطان مريد إلى إنسان فاضل نبيل، حيث كان أحد الذين يتولون حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء محادثاته مع عروة بن مسعود الثقفي في الحديبية هو المغيرة بن شعبة(53) -ابن أخي عروة بن مسعود نفسه- وكان المغيرة هذا قبل أن يهديه الله للإسلام شابًّا فاتكًا سكيرًا، قاطعًا للطريق غير أن دخوله للإسلام حوله إلى إنسان آخر، وقد أصبح بفضل الله - تعالى -من الصفوة المؤمنة، وقد وقع عليه الاختيار ليقوم بمهامّ حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الجو الملبد بغيوم الحرب، وكان من عادة الجاهلية في المفاوضات، أن يمسك المفاوض بلحية الذي يراه ندًّا له أثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء المناقشة، الأمر الذي أغضب المغيرة بن شعبة الذي كان قائمًا على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف يحرسه وعلى وجهه المغفر فانتهر عمه وقرع يده بقائم السيف قائلاً له: اكفف يدك عن مس لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن لا تصل إليك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتسم للذي يجري بين عروة المشرك وبين ابن أخيه المؤمن، ولما كان المغيرة بن شعبة يقف بلباسه الحربي متوشحًا بسيفه ودرعه وعلى وجهه المغفر، فإن عمه عروة لم يكن باستطاعته معرفته، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في أشد الغضب، ليت شعري من أنت يا محمد؟ من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال له عمه: وأنت بذلك يا غُدر؟ لقد أورثتنا العداوة من ثقيف أبد الدهر، والله ما غسلت غدرتك إلا بالأمس. كان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء(54).
لقد فشل عروة في مفاوضاته، ورجع محذرًا قريشًا من أن تدخل في صراع مسلح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقال لهم: يا قوم، والله لقد وفدت على الملوكº وفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد وأصحابه، والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمر فيُفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء، وقد حزرت القوم، واعلموا إنكم إن أردتم السيف، بذلوه لكم، وقد رأيت قومًا ما يبالون ما يصنع بهم، إذا منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت نسيات معه، وإن كن ليسلمنه أبدًا على حال، فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع(55) الرأي، فمادوه يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تنصروا عليهº رجل أتى هذا البيت معظمًا له، معه الهدي، ينحره وينصرف، فقالت قريش: لا تكلم بهذا يا أبا يعفور(56)، لو غيرك تكلم بها للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع قابل(57).
لقد انتقلت الحرب النفسية وتأثيرها في صفوف المسلمين لتعمل داخل جبهة قريش وفي نفوسهم، فقد كان تصوير عروة لما رآه صادقًا، حيث بيَّن لقريش وضع المسلمين في الحديبية، من طاعتهم لنبيهم الكريم وحبهم له وتفانيهم بالدفاع عنه، وبما يتمتعون به من معنويات عالية جدًّا، واستعداد عسكري ونفسي يفوق الوصف، فكان ذلك بمثابة التحذير الفعلي لقريش بعدم التعجيل والدخول في حرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مما قد تكون نتائج هذه المعركة لصالح المسلمين، الأمر الذي أسقط في أيدي زعمائها، ولم تكن قريش تتوقعه أبدًا في تقويمها للأمور، لقد كان وقع كل كلمة قالها سيد ثقيف كالصاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش، لقد كان - صلى الله عليه وسلم - موفقًا من قبل الله - تعالى -، ولذلك نجد أثره على عروة بن مسعود، مما جعل الانشقاق يدب في معسكر قريش، وأخذت جبهة قريش تتداعى أمام قوة الحق الصامدة، وكذلك فقد انهارت حجة قريش في جمعها للعرب ضد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لقد نجح النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكمته وذكائه نجاحًا عظيمًا، باستخدام الأساليب الإعلامية والدبلوماسية المتعددة للحصول على الغاية المنشودة، وهي تفتيت جبهة قريش الداخلية، وإيقاع الهزيمة في نفوسهم، وإبعاد حلفائهم عنهم وإن هذه النتيجة لتعد بحق نصرًا ساحقًا حققه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجبهات السياسية والإعلامية والعسكرية(58).
3- سفارة الحُلس بن علقمة:
ثم بعثوا الحلس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا اله
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد