لا شك أن إعلان الدعوة إلى التوحيد في أوساط قريش قد أزعج قريشاً ورأوا فيها معتقداً يهدد معتقداتهم الموروثة التي عشعشت في عقولهم، ويهدّد مصالحهم العامة التي بنيت على تلك المعتقدات الباطلة واستفادوا منها مركزاً بين القبائل العربية.فانتصب المشركون لعداوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومقاومة دعوته وإلحاق الأذى به وبأصحابه، وكان أصحابه وهم في الجاهلية يأنفون الذل ويأبون الضيم، ويتفاخرون بالأخذ بالثأر حتى كانوا يثأرون لقتل جمل كما في حرب البسوس، أو إذلال فرس كما في حرب داحس والغبراء، ولما جاء الإسلام رفع من مكانتهم وزاد في عزّتهم، ولكن جاءهم مالم يكونوا يعرفونه أو يألفونه من الضيم والظلم والإذلال، فيرون بِلالاً يجرّ في الشوارع، وياسر وسمية يقتلان علناً، وأفضل الخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلحق به أشد أنواع الأذى فيبصق في وجهه الشريف، ويوضع على ظهره وهو ساجد فرث الجزور وسلاها ودمها، ويضربونه حتى يغمى عليه وتسيل الدماء من جسده الشريف، ويستهزئون به، ويصفونه بالجنون والكهانة.
اتهموه بالجنون كما قال - سبحانه -: {وَقَالُوا يَا أَيٌّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنُونٌ}
واتهموه بالسحر والكذب قال - سبحانه -: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}
فأراد الصحابة الانتقام والأخذ بالثأر ولكنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم - على الرغم من شدة ما يواجهونه من الأذى والضرر - أمرهم بضبط النفس والتحلي بالصبر، وعدم الرد بالقوة، أو مقابلة العدوان بالعدوان حتى اشتكوا إليه فقالوا: كما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فقالوا: يا رسول الله: ((إنا كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلّة، فقال: ((إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا)) فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال، فكفوا، فأنزل الله - عز وجل - {أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُم كُفٌّوا أَيدِيَكُم وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}الآية([1]).
وكانت أولى آيات القتال الإذن به وفي هذا دلالة على المطالبة به والحرص عليه لشدّة ما صبروا قال - تعالى -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصرِهِم لَقَدِيرٌ}.
وفيه دلالة على أن الصبر على الدعوة أشدّ من القتال والجهاد في سبيل الله - تعالى - بدلالة أن القتال جاء فرجاً مما يعانونه من الصبر على أعدائهم.
وأخرج الحاكم عن خبّاب قال: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يردّونا عن ديننا، فصرف عني وجهه ثلاث مرات، كل ذلك أقول له فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة، فقال: (أيها الناس، اتقوا الله واصبروا فوالله إن كان الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشقّ باثنين، وما يرتدّ عن دينه، اتقوا الله فإن الله فاتح لكم وصانع)[2].
فهنا يطلب خباب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدعاء عليهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم- يأمره بالصبر مع أن خبّاباً قد عُذِّبَ وأوذي أشد الأذى حتى كان يطرح على الجمر فما يطفئه إلا شحم ظهره - رضي الله عنه -.
وروى البخاري عن خباب بن الأرت قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرّ وجهه فقال: (لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه. وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله - زاد بيان - والذئب على غنمه)[3].
وكانوا يؤمرون بالاستعانة على تحمّل الأذى والتعذيب بالصلاة التي هي عنوان الصلة الدائمة بالله - تعالى -، قال - تعالى -: {وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ} وقال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا المُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصفَهُ أَوِ انقُص مِنهُ قَلِيلاً، أَو زِد عَلَيهِ وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتِيلاً، إِنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدٌّ وَطئاً وَأَقوَمُ قِيلاً}.
فقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قريباً من سنة، فنـزل التخفيف[4].
وقد كانت بغية الشيطان في المواجهة والتصعيد، يشهد لذلك قصّة الزبير بن العوّام - رضي الله عنه - كما رواها عروة بن الزبير قال: (إنّ أوّل رجل سلّ سيفه في الله الزبير بن العوام، نفخة نفخها الشيطان: (أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فخرج الزبير يشقّ الناس بسيفه والنبي - صلى الله عليه وسلم - بأعلى مكة، قال: مالك يا زبير؟ قال: أخبرت أنك أخذت، قال فصلى عليه ودعا له ولسيفه), وفي رواية أخرى (فأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل)[5].
وأصبح أهل مكة كل يوم في ازدياد في حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأمر أصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة ليسلموا من أذى قريش وقال لهم: (إن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد).
واشتدت قريش في أذاها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى حصروهم في شعب من شعاب مكة ثلاث سنوات لا يبيعونهم ولا يشترون منهم، حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الحاجة.
----------------------------------------
(1) تفسير الطبري 5170، المستدرك 2307، وقال على شرط البخاري وأقره الذهبي، سنن النسائي 62، السنن الكبرى للبيهقي 911.
(2) المستدرك 3383 وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
(3) الفتح 7202.
(4) سنن أبي داود 272 حديث 1305، وتفسير الطبري 2979.
(5) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11 241، وأحمد في فضائل الصحابة رقم 1266، وابن أبي شيبة في المصنف 1292 ـ 93، والزبير بن بكار والفاكهي في أخبار مكة 4130، 131 والطبراني في المعجم الكبير 178 والأوائل للطبراني رقم 26، وأبو نعيم في الحلية 189، وعزاه الحافظ في الإصابة 1527 للزبير بن بكار، وأورد ابن عبد البر روايته في الاستيعاب 1561 من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه، ونحوه عند البيهقي في الكبرى 6367.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
حلو
15:46:27 2021-10-28