كلما أشرق عصر جديد، أو انبثق جيل وليد، أُحِسٌّ بالحاجة الملحة إلى محمد - عليه الصلاة والسلام -، يستهديه ويستلهمه ويسير على دربه أملاً في حاضر مُثمِر ومستقبل أكثر إشراقًا.
في عصرنا تضخمت مشكلاتنا وكثرت مخاوفنا، وأوشك العالم أن يستحيل إلى غابة تسود فيها شريعة القوة، وتغيب عن الإنسان روح الإنسانية، هذه الشرور على الأرض، هذا الخطر الذي يستشري في السلوك الدولي، لا نجاة منه إلا بالعودة إلى نبي الإنسانية في سيرته وشريعته وكمال الإنسانية فيه.
لقد رفع محمد - صلى الله عليه وسلم - لواء الحق وأعلى منار العدل ووطَّد قواعد الحرية وأرسى دعائم المدنية وآخى بين الإنسان وأخيه الإنسان دون اعتبار للجنس أو اللغة أو اللون، وأعلن منذ زمن طويل أن البشر جميعًا سواسية، لا فضل لأحد على غيره إلا بالعمل المثمر الذي يرضى عنه الله - عز وجل - والناس.
محمد - صلى الله عليه وسلم - هو هذا الإنسان النبيل الذي نحاول جميعًا أن نكون في ظل الأرض، نتخلق بأخلاقه ونهتدي بهديه ونقتدي به في صبره وعفَّته وقناعته وجهاده، وتضحيته وعبادته وإيثاره الناس على نفسه.
محمد - صلى الله عليه وسلم -..خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، يمشي وراء أصحابه، يبدأ من لقي السلام، طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه باسم الله، يُعَظِّم النعمة وإن دقَّت، لا تغضبه الدنيا ولا مكان لها، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، ضحكه التبسٌّم، إذا انطلق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار أجود الناس وأسخاهم نفسًا، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ما سئل عن شيء قط فقال: لا، وما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
محمد - صلى الله عليه وسلم -.. خُلُقه القرآن، لا يتكلف في لباس أو طعام، يلبس جيد الثياب لمقابلة وفود أو لمناسبة عيد، يأكل ما يجده، فإن لم يجد بات طاويًا، وربما شَدَّ على بطنه الحجر من شدة الجوع، وهو الذي يستطيع أن يَمُدَّ بصره نحو السماء داعيًا بما يريد فيُستَجاب دعاؤه في الحال.. ولكنه طراز فريد من البشر، الدنيا ليست أكبر همه، ولا نهاية المطاف عنده، وإنما هي في عقيدته لحظة زمنية عابرة بعدها عالم آخر خالد، فيه ما لم يَخطُر على قلب بشر.
محمد - صلى الله عليه وسلم -.. في بيته يخصف نَعلَه ويُرَقِّع ثوبه ويحلب شاتَه، يحكي أنس بن مالك - رضي الله عنه - خدمت مع النبي عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ, قط، ولا قال لشيء صنعتُه: لِمَ صَنَعتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لِمَ تَرَكتَه؟ لا يظلم أحدًا أجره. وتحكي عائشة زوجه-رضي الله عنها-: ما ضرب امرأة ولا خادمًا، ويحكي أبو هريرة - رضي الله عنه -: دخلت السوق مع رسول الله ليشتري سراويل، فوثب البائع إلى يَدِه يُقَبِّلُها، فجذب النبي - صلى الله عليه وسلم - يده ومنعه قائلاً: \"هذا ما تفعله الأعاجم بملوكها ولست بملك، إنما أنا رجل منكم\"، ثم أخذ السراويل فأردت أن أحملها فأبى، وقال: صاحب الشيء أولى بِحَملِه.
محمد - صلى الله عليه وسلم -.. مع أصحابه لا يحب أن يقوم له أحد، ولا يُجابِه أحدًا بما يكره، وإذا بلغه من أحد شيء يكرهه نبَّه إلى هذا الخطأ بكلام عام من مثل (ما بال أقوام يفعلون كذا) دون أن يذكر اسم المخطئ، ينزل إلى الأسواق فيرشد الناس إلى الأمانة وينهاهم عن الخداع والغش في المعاملات، يُقَرِّب إليه أصحاب السبق في الإسلام والجهاد، ولو كانوا غمار الناس، يستشير أُولِي الرأي في السلم والحرب وأمور الدنيا، وينزل على آرائهم ولو خالَفَت رأيه.
محمد - صلى الله عليه وسلم -.. الإنسان في خشيته وعبادته، كثير المراقبة لله - تعالى -، واسع الخشية منه، عظيم الطاعة له، يقوم الليل متهجدًا راكعًا ساجدًا حتى تتورم قدماه، وتفيض عيناه بالدمع حتى يسمع لصدره أزيز، فيثير ذلك السيدة عائشة زوجه - رضي الله عنها - وتسأله: أتفعل ذلك يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيجيبها: \"أَفَلا أَكُونُ عَبدًا شَكُورًا\".
سيدي يا رسول الله، في القلب والعقل جذوة من حب مقدس يشدنا نحوك، ويربطنا بك قائدًا وهاديًا وسراجًا يضيء حياتنا، ويأخذ بيدنا نحو الكمال الإنساني الذي أحسبه صعب المنال ولا يتحقق بعيدًا عن منهجك. نعيشك دمًا يجري في عروقنا، وسلوكًا يتبع خطاك، ويسير على دربك.
صلى الله عليك في يوم مولدك، وفي كل يوم تشرق فيه شمس الله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد