فقه المرحلة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أدركت قريش خطورة خروج رسول اله - صلى الله عليه وسلم - من بين ظهرانيها منذ ليلة الهجرة، حين قال إبليس لهم: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به. والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد. دبروا فيه رأياً غير هذا.

ولا بد من الاعتراف أن قريشاً أبدت كفاءة فائقة في مواجهة الدعوة، ولم تنم أو تستسلم إلى الدعة بعد خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مع أصحابه، فهم يدركون أن عبد الله بن أبي سيبقى العدو الألدº لأن الانقلاب الفكري والعسكري قد تم من خلف ظهره ودون علمه فهو ركيزة رئيسية لهم. كما يعرفون نزيف الدماء الرهيب بين الحيين الأوس والخزرج، وأن صفهم الداخلي قابل للانفجار في كل لحظة.

ومن هاتين المعلومتين ومن يقظة استخباراتهم كذلك أدركوا مركز القوة المناسب للمواجهة فبعثوا إلى عبد الله بن أبي قائلين: إنكم أويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو ليخرجن، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نفتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم.

وكانت هذه الخطة الأولى من قريش للمواجهة في إشعال الصف الداخلي من جديد.

لكن عظمة النبوة وعظمة القائد المربي - عليه الصلاة والسلام - دفنت هذه الفتنة في مهدها، وضرب على وتر العزة القبلية لمواجهة الفتنة الخارجية، فقال لابن أبي، ومن معه من المشركين الذين حملوا السلاح للمواجهة: (ولقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ. ما كانت تكيدكم بأكثر من ما تريدون أن تكيدوا به أنفسكمº تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟ )، فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا.

ونحن بحاجة إلى وقفة قصيرة مع هذا الموقف النبوي العظيم إذ يتبادر إلى الذهن أن تصدر الأوامر النبوية للمسلمين بحمل السلاح والمواجهة مع الكفار، باسم المفاصلة وتطهير الصف الداخلي، وأن المعركة ابتداء معركة إيمان وكفر. وسيستجيب المسلمون لذلك، لكن ما هي آثار هذا الموقف فيما بعد؟.

وطبيعة الثأر عند العربي أقوى غرائزه، فسينظر هذا الفريق بحقد على هؤلاء الذين نزلوا في دارهم وأوقعوا الحرب بينهم منذ السنة الأولى، مع أن قياداتهم أقبلت على هذه الدعوة بهدف وحدة صفها الداخلي، كما قال أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك.

لقد كان - عليه الصلاة والسلام - بعظمة بصره النافذ، يدرك أغوار النفس البشرية التي يتعامل معها، ويدرك كذلك أن المهمة الأولى التي تنتظره هي التحام هذه القلوب حول هذا الدين وحوله، وأن يهيئ كل العوامل النفسية لذلك..و معركة داخلية في الصف المسلم في أيامه الأولى تمزق وتفرق ولا تجمع ولا تضم.

وفي الوقت الذي كانت ملامح القتال مع قريش تفرض نفسها على الساحة كانت الأوامر تنزل إلى المسلمين بالصبر في صراعهم مع اليهود، علماً بأن الاستفزازات اليهودية كانت تدعو إلى قتالهم، غير أن القضية مع القيادة الإسلامية ليست قضية استفزازات أو ردود فعل.. إنها قضية تخطيط، ودراسة للقوى القائمة.. والتوجيه الرباني لهذه القاعدة الصلبة يصوب هذا الاتجاه أو ذاك حين يقع خلل في الاتجاه.

فهل يدرك الدعاة اليوم هذا الفقه في الأولويات من قائدهم العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply