فقه الهجرة النبوية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

إن المتأمل في هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة النبوية يجد أن التوكل على الله هو عنوان وشعار تلك الرحلة المباركة.

 

فمنذ أن جاء جبريل - عليه السلام - ، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره أن قريشاً قد عزمت على قتله، وأن الله قد أذن له بالهجرة إلى المدينة، حتى سارع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكله ثقة بنصر الله وتمكينه، إلى حشد كل الأسباب المادية المتاحة استعداداً للهجرة حيث توجه متخفياً في نحر الظهيرة إلى منزل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ليخبره الخبر، ويتدارس معه أمر الهجرة إلى المدينة، وهناك في دار الصديق، - رضي الله عنه - تم إعداد مخطط الهجرة وتقسيم الأدوار بكل دقة ووضوح.

 

ومما يستوقف القارئ لأحداث الهجرة أن الفتاة المسلمة كانت حاضرة لأخطر قرار في تاريخ الدعوة حيث كانت عائشة وأسماء - رضي الله عنهما - تستمعان لتلك المداولات التي دارت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين والدهما أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قالت: (بينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له فدخل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله: نعم: قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاق).

 

ولعل ما سبق يكون حافزاً للفتاة المسلمة في هذا العصر لتواصل دورها الحيوي في الدعوة إلى الله بكل شجاعة وفخر.

 

أما شباب الإسلام فقد كان لهم حضورهم المميز، ودورهم الفاعل في تنفيذ مخطط الهجرة، حيث نفذ علي بن أبي طالب وعبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهما - دورهما بكل فدائية وشجاعة، فعلي - رضي الله عنه - تولى عملية التمويه على كفار قريش حيث نام في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الهجرة، أما عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنه - فقد تولى مهمة نقل أخبار قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مكثه في غار ثور هو والصديق - رضي الله عنه - بكل دقة وحذر، وبراعة في التمويه على كل من يفكر أن يتعقبه ويستطلع وجهته، وبالرغم من كل الجهود السابقة والدقة في تنفيذ مخطط الهجرة شاءت إرادة الله - سبحانه - وتعالى - أن تتمكن قريش من اقتفاء أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه - رضي الله عنه - وتحديد المكان الذي انقطع عنده الأثر، ألا وهو جبل ثور، حتى نعلم أن الأسباب المادية، التي تضخمت في ذهن كثير من المسلمين في هذا الزمان بفعل الغزو الفكري المادي لا تكفي وحدها لتحقيق النجاح، بل هي أسباب مساعدة، وحتى نعلم أيضاً أن الجهد البشري في التخطيط والتنظيم والدقة في التنفيذ لا تغني عن توفيق الله وعنايته وحفظه لعباده المؤمنين.

 

لقد وصلت قريش إلى غار ثور، وكادوا يحصلون على مبتغاهم، لكن الله صرف أبصارهم وأعمى قلوبهم، ولقد سجل القرآن الكريم تلك اللحظات الحرجة في مسار الدعوة وما فيها من معان عظيمة من معاني التوكل على الله وتفويض الأمر إليه وحده - سبحانه - قال - تعالى -: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم). قال العلامة ابن سعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: (وفيها فضيلة السكينة وأنها من تمام نعمة الله على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش لها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه، وثقته بوعده الصادق، وبحسب إيمانه وشجاعته (وأيده بجنود لم تروها) وهم الملائكة الكرام الذي جعلهم الله حرساً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقال أيضاً: (وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنه المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كافراً لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها. وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص الصديقين مع أن الأولى إذا نزل بالعبد أن يسعى في ذهابه عنه فإنه مضعف للقلب موهن للعزيمة).

 

وفي الطريق إلى المدينة تمكن أحد فرسان العرب وهو سراقة بن مالك من اقتفاء أثر ذلك الركب الميمون لكن الله - سبحانه وتعالى - صرفه عنهم بمنه وكرمه فكان ذلك سبباً في إسلام سراقة بن مالك رضي الله عنه.

لقد كانت الهجرة إلى المدينة منعطفاً تاريخياً في حياة الأمة المسلمة انتقلت فيه من مرحلة الاستضعاف والابتلاء في العهد المكي إلى مرحلة الاستخلاف والتمكين في العهد المدني، لكن هذا الاستخلاف يحتاج إلى جماعة مؤمنة تقوم بأعبائه ومتطلباتهº لذا فما إن وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة حتى شرع في إرساء قواعد المجتمع المسلم حتى يهيئ الأسباب التي تعين الأمة على الاستخلاف والتمكين.

 

هذا وقد تمحورت تلك القواعد حول الموضوعات التالية:

أولاً: علاقة الأمة المسلمة بربها، وقد كان ذلك عن طريق بناء المسجد الذي تستطيع فيه الأمة أن تعبد ربها وتنفقه في أمور دينها ويتشاور فيه المسلمون حول آمالهم وآلامهم، ومن الملاحظ أن هذا الأمر قد دفع أعداء الأمة في كل زمان ومكان إلى تحجيم دور المسجد لأنه روح الأمة المسلمة وقلبها النابض.

 

ثانياً: علاقة الأمة المسلمة مع بعضها البعض، وقد كان ذلك عن طريق المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم الذين تركوا بلادهم وأوطانهم، واستقروا في المدينة النبوية، وهو ما يعرف في هذا العصر باللجوء، أو النزوح، لكن شتان بين معالجة هذه المشكلة في هذا العصر، وبين نظام المؤاخاة الذي حفظ كرامة الصحابة رضوان الله عليهم وصهرهم في وحدة إيمانية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً على الإطلاق.

 

إن المؤاخاة والألفة التي تمت بين الصحابة رضوان الله عليهم لم تتحقق بجهد بشري أو بفلسفات اجتماعية، أو إدارية، أو نفسية كما يردد البعض في هذا الزمان، بل هي منة من الله - سبحانه - وتعالى - امتن بها على عباده المؤمنين قال - تعالى -: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم).

 

ثالثاً: علاقة الأمة المسلمة مع غيرها من الأمم الكافرة، وهو ما وضحته وثيقة المدينة انطلاقاً من عقيدة الولاء والبراء التي حفظت هوية الأمة من التحلل والذوبان، وهو ما تعاني منه الأمة المسلمة في هذا الزمان بفعل ضمور عقيدة الولاء والبراء في قلوب كثير من المسلمين.

 

بعد ذلك انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاملاً لواء الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله حتى توفاه الله بعد أن أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وفي الختام أشير إلى أن اختيار الصحابة رضوان الله عليهم في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للتأريخ بالهجرة النبوية المباركة دون غيرها من الأحداث يعد من فقه الصحابة وفهمهم العميق لأهمية هذا الحدث الذي انتقلت الأمة المسلمة بسببه من مرحلة الاستضعاف والابتلاء إلى مرحلة الاستخلاف والتمكين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply