المجادل بالتي هي أحسن


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم تكن مدينة (ديربان) الجنوب إفريقية تعلم أن ذلك الصبي ذي التسع سنين القادم من (سيوارت) الهندية سنة 1927م سيكون له شأن وسيرتبط اسمها باسمه، كما ارتبط النضال ضد العنصرية التي عاشتها باسم مانديلا، فاستقبلت الصبي الهندي وأباه الخياط كغيرهما من آلاف المهاجرين إليها دون اكتراث. وقد وصلها مكلومًا بعد وفاة والدته، وفيها التحق بالمدرسة، وبلغ السنة الثانية الإعدادية، وبرغم تفوقه وشغفه بالدراسة وإتقانه اللغة الإنجليزية وقفت ظروفه المعيشية حائلًا دون إكمال دراسته، وكم حال الفقر بين آلاف النابغين ومواصلة تعليمهم، فمنهم من يستسلم ومنهم من يقاوم ثم ينجح أو يخفق. وقد كاد الفتى يستسلم لهذا الواقع ولكنه صمد، فلم يأخذه العمل في دكان لبيع التجزئة عن تثقيف نفسه وقراءة ما يقع تحت يده من صحف أو كتب، بل لقد انتظم في كلية مولاي سلطان التقنية فاجتاز برنامجًا في الرسم الهندسي التقني، وفي رياضيات تشغيل اللاسلكي وصيانته، واستمر بعد ذلك في تثقيف نفسه، وانتقل للعمل في دكان أكبر يملكه مسلم قريبًا من إرسالية تبشيرية، فكان طلبة الإرسالية يترددون على دكان ديدات، فيقولون له ولزملائه: هل تعلمون شيئًا عن زوجات محمد؟ هل تعلمون أنه نسخ القرآن وأخذه من كتب اليهود والنصارى؟ هل تعلمون أنه ليس نبياً؟ كانت أسئلتهم هذه وغيرها تستفز الفتى المسلم، وتشعره بمرارة الظلم مضاعفًا، فهي طعن في دينه ومعتقده، وهو لا يستطيع الرد عليها ولا الدفاع عن دينه، فكل ما كان يعرفه أنه مسلم اسمه أحمد، يصوم ويصلي كما يفعل أبوه، ولا يشرب الخمر ولا يأكل الخنزير، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

وبتأثير هذه الأسئلة المستفزة فكر الفتى أن يترك العمل في ذلك الدكان، ولكن البديل لم يكن متاحًا، فصبر على مضض، وبينما كان في أحد أيام عام 1936 يقلب بعض الجرائد في زاوية المتجر لينفض عنها الغبار ويقرأ محتواها وقعت يده على كتاب يكسوه الغبار، كان كتاب (إظهار الحق) لرحمة الله الهندي الذي سكن المدينة المنورة وجاور بها، وألف هذا الكتاب سنة 1915م قبل ميلاد أحمد ديدات بثلاث سنوات فقد كان ميلاده عام 1918م، ألفه ليرد به شبهات المنصرين في الهند، الذين سخرهم الاحتلال البريطاني لزعزعة المسلمين عن دينهم، عندما رأوا أنهم يشكلون خطرًا على المستعمرين، فكان من الحلول المطروحة لمواجهة المسلمين تنصيرهم لتستقر في أذهانهم عقيدة (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر).

كان هذا الكتاب بمنزلة الموجة القوية التي غيرت اتجاه زورق أحمد ديدات في بحر الحياة، فقد لفت ذهنه الوقاد إلى طرق المناقشة، والرد على شبه الخصوم، وطرق الاعتراض والاستدلال، وفتح له أفاقًا من القدرة على الحوار وكانت تلك أمور يحتاجها أحمد ديدات ولا يملكها.

لقد عرف أحمد ديدات الطريق فلم يبق إلا أن يتسلح بالمعرفة التي تمكنه من الرد على خصوم دينه، وكان قرأ القرآن الكريم وحفظ منه الكثير، فقرأ الأناجيل، وكتبًا في مقارنة الأديان، والرد على شبه المنصرين، وكان الظلم الذي تعرض له في مطلع حياته وعجزه عن الرد فيما سبق وقود حماسته للدفاع عن الإسلام والهجوم على النصرانية، فأدى ذلك إلى هجومه على الخصوم بعنف وشدة، وإغراقه في التفاصيل العقدية التي لا يعرفها عامة النصارى، وجنوحه إلى السخرية من الخصوم واعتماده على الإفحام لا على الإقناع، وهذا يخالف قول الله تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)  ولكن هذه المآخذ على منهجه كانت ردة فعل للظلم الذي تعرض له في بادئ الأمر.

أخذ ديدات يطور أدواته في النقاش ويحاور طلاب الإرسالية التنصيرية، وعندما يعجزون عن مواجهة حججه يدعون أساتذتهم من الرهبان في المناطق المختلفة للمناظرة، وأخذ يحضر دروسًا في مقارنة الأديان، وتعلم كيف يرد على النصارى ويدعو إلى الإسلام مستخدمًا الكتاب المقدس. وشيئًا فشيئًا تحول الاهتمام والهواية إلى مهمة وطريق واضح للدعوة بدأه الشيخ واستمر فيه فكان له من النجاحات الكثير.

ثم عمل على تدريس مقارنة الأديان لزملاء له لمدة ثلاث سنوات، وبعد ذلك رأى أنها تجربة يمكن نقلها للآخرين..

وقد حضر إلى دربان زائر من (جوهانسبرج) وسمع درس أحمد ديدات، ورغب أن يستفيدوا منه في (جوهانسبرج) وكان عندهم الاحتفال بالمولد النبوي، فعرض عليه السفر لإلقاء محاضرة في الاحتفال، وفي (قاعة جوهانسبرج) ألقى أولى محاضراته العامة.ثم عاد فألقى محاضرة عامة في (قاعة ديربان) فكانت تلك بداية انطلاقته وتعريف الناس به، وزيارة الراغبين في معرفة الإسلام لمكتبه الذي ينشر من خلاله الدين الإسلامي، وأنشأ مركزه في نهاية الخمسينيات، الذي أسماه (مؤسسة السلام).

وقبل أن يخرج إلى العالم في أول مناظرة عالمية سنة 1977م بقاعة (ألبرت هول) في لندن كانت جنوب إفريقيا كلها تعرفه بعد أن عاينت فيه مناظرًا من طراز فريد.

واستمر يدير مؤسسته الدعوية ويناظر ويعرف بدين الإسلام، ويعقد دورات متخصصة في دراسة الإنجيل، وتدريب الدعاة، وتوزيع ملايين النسخ المجانية من القرآن الكريم، وخاصة من الترجمة الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم. ويدعو غير المسلمين عن طريق السياحة والجولات بين المساجد. ويوزع النشرات المترجمة باللغة الإنجليزية واللغات المحلية للتعريف بدين الإسلام، حتى اقترن اسم جنوب إفريقيا بأحمد ديدات تمامًا كما اقترنت باسم نيلسون مانديلا، فبينما خاض مانديلا نضالًا سياسيًا لتحرير البلاد من داخل زنزانته، قاد ديدات نضالًا عقديا لتحرير العقول من الخلط والغلط. حتى أسلم على يديه الآلاف من النصارى وأصبحوا دعاة إلى الإسلام في شتى بقاع العالم.

وكانت مناظراته تحدث دويًا في العالم الغربي، فحديثه عن تناقضات الأناجيل الأربعة دفع الكنيسة ومراكز الدراسات التابعة لها والعديد من الجامعات الغربية لتخصيص قسم خاص في مكتباتها لمناظرات ديدات وكتبه وإخضاعها للبحث والدراسة لإبطال مفعولها.

وكان أشهر تلك المناظرات مناظرته مع الـمنصر الأمريكي العالمي (جيمي سوجارت) الذي كان قد أساء للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه في نهاية المناظرة أعلن اعتذاره عن تلك الإساءات وتراجعه عنها.

وتقديرًا لكل تلك الجهود منحت جائزة الملك فيصل العالمية للداعية أحمد ديدات في خدمة الإسلام بالاشتراك عام 1986م.

واستمر عطاؤه ونشاطه بعد ذلك متدفقًا حتى أصيب بجلطة دماغية في سنة 1996م تسببت في شلل تام لجميع جسده باستثناء رأسه، وبقي مع ذلك يستقبل رسائل الناس من أنحاء العالم ويجيب عنها بتحريك جفونه، فقد ظل خلال سنوات مرضه التسع قادرًا على التواصل مع الآخرين بواسطة حركات جفونه رغم عدم قدرته على تحريك جسمه.

ويمضي أحمد ديدات بعد سنوات من الدعوة في مضمار قل فرسانه، وهو مضمار دعوة النصارى ومقارعة شبهاتهم بالحجج الواضحات في زمن انشغل جل علماء المسلمين بالتنظير في دوائر ضيقة، واكتفى أكثرهم بالصراع المذهبي، والطائفي، وتوجيه سهام الدعاء على الغرب الكافر عوضًا عن تبليغهم دعوة الإسلام الواضحة بنقائها وجلائها وجلالها وسماحتها، وديمومة صلاحيتها وتلبيتها لمتطلبات العصر عندما يفقهها ويبلغها من يفقه ويعيش واقعه المعاصر.

رحل أحمد ديدات مخلفًا وراءه مؤسسة السلام و(125) محاضرة ومناظرة مسجلة، وأربعة وعشرين كتابًا مترجمًا إلى أهم اللغات العالمية، ومن كتبه: (المسيحية والإسلام – ماذا يقول الإنجيل عن محمد صلى الله عليه وسلم ؟ هل عيسى عليه السلام هو الله؟ هل الإنجيل هو كلمة الله؟ من حرك الحجر؟ الإله الذي لم يكن؟ صلاة المسلم – خرافة الصلب).

هكذا بعد ركض طويل في مضمار الدعوة إلى الإسلام والحوارات والمناظرات ورد الشبهات يودع أحمد ديدات الحياة يوم الاثنين الثالث من رجب سنة 1426هـ الموافق للثامن من أغسطس سنة 2005م، يودع الحياة في مدينة ديربان الجنوب إفريقية التي استقبلته ذات يوم منذ ثمان وسبعين سنة دون أن تأبه له، فجعل منها مقصدًا للباحثين عن الحق والسائلين عن حقيقة الإسلام، من خلال (مؤسسة السلام) التي أنشأها هناك في أواخر خمسينيات القرن العشرين. اللهم تقبل عمله الصالح واغفر له يا أرحم الراحمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply