الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي في ذمة الله


  

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد مات علي الطنطاوي، ألا تريد أن تكتب كلمة في الرجل؟

 

كيف لاº وهل مثل علي الطنطاوي من يُتجاهل؟ إن الكتابة عنه كتابة عن الإسلام بشموخه ومحنته في بلدي. وإذا تطلبت شخصية تجمع بين الاعتزاز بماضينا التليد، والإيمان بأن الإسلام لنا ماض وحاضر ومستقبل فدونك علي الطنطاوي. وإذا كنت ممن يعتقد أن رسالة هذه الأمة أوسع من المدى الذي زواها وحاصرها فيه أدعياء القومية الجاهلية وفروخ المدارس التنصيرية، وتريد من يعرب عما في خاطرك ويفصح عما وراء لسانك فعليك بعلي الطنطاوي، فهو الأديب العربي المسلم الذي يرى العروبة دائرة في محيط الإسلام الواسع، ولا يمانع أن تكون هذه الدائرة مركزيةº لا أن تكون العروبة أصلاً والإسلام فرعاً - شأن من أعمى الله بصائرهم، وأضروا بأمتهم أيما ضرر - أو أن يكون الإسلام أثراً أرضياً وامتداداً لجاهليات سومر وبابل وأوغاريت وعاد وثمود والفراعنة، مما يجهد شياطين الحفريات وتلامذتهم لاختراع مزايا ومحاسن لها، يربطون بينها بسياقات تبدو منطقية، كل ذلك من أجل أن يطمسوا كل أثر أنتجته الحضارة الإسلامية ويتجاوزه.

لقد كان علي الطنطاوي شخصية متعددة المناحي، غنية المشاركة، فقد عمل في سلك التعليم، والقضاء، والدعوة إلى الله بمعناها الواسع، وكان خطيباً مفوهاً، وكاتباً بليغاً ألمعياً، وصاحب نظرات ثاقبة في مجالات اجتماعية كثيرة، وكل جانب من جوانب حياته يتطلب كلاماً كثيراً لإبرازه وشرحه. وجملة القول فيه أنه كان مفخرة عربية إسلامية في أي أرض حل فيها، وصاحب حضور قوي إيجابي أينما توجهº فهو مفخرة للشام التي ولد فيها ونشأ وترعرع وتعلم، ومفخرة في مصر التي أقام فيها فترة ليست بالطويلة، ومفخرة في العراق التي رحل إليها فترة للتعليم، ومفخرة للسعودية التي عمل فيها قرابة الثلث الأخير من حياته، وكانت منفاه ومدفنه.

 

مجالان اثنان في حياة علي الطنطاوي يستهويني الإشارة إليهما والحديث عنهما وهما:

 

علي الطنطاوي الأديب الملتزم.

وعلي الطنطاوي الداعية الإسلامي الناجح.

 

أما المجال الأول فقد كان علي الطنطاوي كاتباً من الطراز الأول، رشيق العبارة، وصاحب أسلوب متميز، متأثر بأدباء العربية الكبار قدماء ومحدثين، ولكنه غير مقلد، بل هو نسيج وحده في اختيار الأسلوب السهل الممتنع. يمد ذلك ويزينه بديهة حاضرة وقدرة على تصريف القول حيثما اقتضت مجالاته. وهو إلى جانب موهبته وبديهته متمسك بأصوله، مستمد من دينه (البوصلة) التي توجهه، لا يرى الأدب مجالاً لدغدغة العواطف، وتحريض الشهوات، بل يراه سلاحاً لمحاربة الظلم بكل أشكاله: ظلم المستعمر الغريب، والظلم الاجتماعي المنتشر، وظلم الحاكم الذي يعمل من أجل كرسيه فقط.

 

ويعتقد أن أصحاب الأقلام يجب أن يكونوا أصحاب رسالة يعرفون الشعوب بحقوقها، ويتلون عليها أمجاد أمسها، لا لتخديرها، بل لاستنهاضها من واقعها البائس، ويذكرونها بأن الله خلقها حرة، فلا تذل لأحد كائناً من كان، ولا تخضع إلا لبارئها، وتحرض الناس على كراهية القوانين الأجنبية التي هي أثر من آثار الاستعمار البغيض، وتعرفهم أنهم أصحاب شرع أسمى من قوانين الأجانب، ومن العار أن يعيشوا عالة على أفكار الغرب ومفاهيمه. وأن من واجب أصحاب الأقلام أن يبصروا أهلهم بما هو أخطر من الاستعمار العلني، استعمار الجيوش، وهو استلاب الأفكار وتدجين الشعوب عن طريق إفسادها بالمصطلحات المخدرة مثل: التحرر، تحرير المرأة، والتطور، والمدنية..

 

ولهذا فمن الطبيعي أن لا يكون لعلي الطنطاوي ومن يرى رأيه في الأدب الذي يلتزم فيه صاحبه قضايا أمته الكبرى وينطلق منها، وعلى رأسها: دينها، وقرآنها، وتاريخها، ومفاخرها، نقول: لا يكون لعلي الطنطاوي مكان على مائدة العابثين من أدعياء الأدب ومشوهي العقول، فكيف تجتمع الفضيلة والرذيلة على مائدة واحدة، وكيف يلتقي السموق والانحطاط، والتميز والانضباع؟!.

 

أما مجال الدعوة الإسلامية فقد عاش علي الطنطاوي لها حياته، وسخر لها قلمه ولسانه ومواهبه، وكان بحق مجدداً في أساليبها، سواء في خطبه أو في أحاديثه الساحرة التي تخلب عقول مستمعيه، ونادى بتقريب لغة الوعظ والإرشاد إلى العقول والقلوب، والبعد عما صارت إليه من التصنع والتقعر الذي كان يبدو وكأنه نداء في صحراء لا سميع فيها، وطلب من الخطباء أن يطرقوا الموضوعات التي تعني الناس في حياتهم اليومية، وتحل مشاكلهم الناشئة من تعاملهم مع الواقع، وطبق ذلك بنفسه، فكانت خطبه وأحاديثه انعكاساً أميناً لذلك. فكان الناس ينتظرونها بفارغ الصبر، ويتداعون إلى حضورها من مسافات بعيدة، وهذا شيء معروف ومشهور ولا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

 

وعلي الطنطاوي يعتبر مدرسة في الجرأة في الحق والصراحة فيما يعتقده، لا يجامل على حساب عقيدته، وله مواقف مشهورة ستظل مشعلاً ومناراً لمن بعده، فقد عاش في فترة الانتداب الفرنسي، مجاهراً بكره الاستعمار وفضح أعوانه، داعياً إلى جهادهم بالمال والنفس، وفي فترة الاستقلال كان صوتاً قوياً يتصدى لدعاة الفساد والانحلال، ولدعاة العصبية الجاهلية التي اتخذتها الطوائف مظلة تحارب بها الإسلام الحق، وكان حرباً على الجمود والتقليد وخرافات الطرقيين الذين أساؤوا للإسلام ونفروا منهº وكان مصلحاً اجتماعياً يحذر من الشيوعية والاشتراكية في وقت مبكر وقد ذر قرنها، وقبل أن تطبق في بعض الأمصار الإسلامية، وتكون مثل ريح السموم لا تخلف وراءها إلا الدماء والهلاك، هاهو يكتب عام 1947 - وكان في مصر - مقالاً بعنوان: \"إنذار\"، يقول فيه:

\"لقد نشأت في الشام، وسِحت في البلاد، فرأيت في كل بلد أغنياء وفقراء، وسعداء وأشقياء، ولكن لم أر مثل الذي رأيت في مصر!.

 

فما هذا التفاوت بين البشر في مصر؟ ما هذا الوضع الذي يجعل من الناس واحداً يملك مليوناًº ومليوناً لا يملكون الواحد؟ وألفاً يشتغلون لرجل، والرجل لا يعمل عملاً؟ وإنساناً يظن نفسه من الغنى والكبر إلهاًº وأناسيَّ تحسب أنها من الفقر والضعة بهائم؟!.

 

متى كان هذا في طبع العربي؟ متى كان في شرع المسلم؟ متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ يا ناس، راقبوا الله، فإن هذا ظلم، والله لا يرضى لعباده الظلم، ولا يقرهم عليهم، ولكنه يمد للظالم ثم يأخذه، فاتقوا إخذة الله. يا ناس، اعقلوا، فإن هذا باب الشيوعية، فإن لم تغلقوه دخلت عليكم فأهلكتكم\".

 

وقد كان!!.

 

وقد كانت له مواقف في عهد الوحدة، ذلك العهد الذي جلب عصر المخابرات بسوئها وتخريبها وتدميرها للضمائر والعقول قبل الأصقاع والدساكر والحقولº إلى مسرح السياسة العربية، فلم يكن يعبأ ببطش عبد الناصر ومخابراته، بل كان يقول حيث يعتقد أن السكوت عن قول الحق لا يقل سوءاً عن تزيين الباطل وتأييده.

 

في 7/7/1995 ميلادية تناقلت وسائل الإعلام خبر تكريم رئيس الدولة التي ينتمي إليها علي الطنطاوي لشاعر فاسق داعر، ورافضي شعوبي مارق، حيث أضفوا عليه صفات عريضة، وادعوا له ما ليس فيه في عرس احتفالي مشهور، دعي إليه بعض فلول الشيوعية، ورموز الطائفية الحاقدين، وتفضل ذلك الرئيس بأن منح هذا الزنيم الأرعن، والطعان اللعان الفاحش البذيءº أرفع وسام في سورية، وهو وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة، وأهداه قصراً (فيللا) في أنزه أحياء دمشق.

 

حين قرأت الخبر تساءلت: على ماذا تمنح الأوسمة وتهدر أموال الشعب؟ وأي استحقاق يستحقه هذا المطرد المذاد عن حياض الفضيلة والخلق الكريم؟ ثم تذكرت بأنه ليس بدعاً أن تهدر الأموال هكذا (هيل بلا كيل)[1]، وتعطى لشاعر مداح هجاء، يقول اليوم ما ينقضه غداً، فهذه شنشنة معروفة عندنا - نحن العرب - وتذكرت أيضاً علي الطنطاوي، غير متأسف أن لا ينال تكريماً رسمياً في بلده، فهذا مما لا يفكر فيه ولا يطمح إليه الدعاة الصادقون إلى الله في هذا العصر، وخاصة في بلد مثل بلده، الذي تفتح أبوابه على مصاريعها لكل أفاك مأفون، ولكل شعوبي يغلي قلبه حقداً على الشام وأهل الشام، وتغلق في وجه المخلصين من أبنائهº ولكن لأن مثل علي الطنطاوي يحال بينه وبين العيش في البيت الذي لم ينله منحة من دولته التي تكرم من تكرم، بل بناه بجهده وسعيه، وأين؟! في دمشق التي ما تغنى بها مثل علي الطنطاوي، وما كتب في محاسنها وميزاتها ومفاخرها مثله، حتى ليظن الذي يقرأ ما كتبه الطنطاوي في دمشق أن الأرض - على سعتها - تتضامٌّ، وتتداخل في بعضها لتكون دائرة صغيرة هي الغوطتان، ومركزها دمشق.

 

لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس

 

فيما موت زر، إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل

 

بل وأكثر من هذا، لا يكفي علي الطنطاوي أن يذاد عن بيته، في مدينته التي أحبها، وكتب فيها ما كتب، بل يجازى في شيبته التي شابها في كل ما يرفع الرأس، ويجلب المجد الشخص والجماعيº أن يقتل هذا النظام الذي يتشدق بالعروبة ورسالتها الخالدة ابنته غيلةً، وهي غريبة شريدة طريدة، فأية عروبة هذه، وأية رسالة خالدة التي تهان النساء في ظلها بالسجن والقتل وصنوف الإهانات الكثيرة الأخرى؟ إن العربي وهو في جاهليته كان يصون سلاحه عن قتل النساء حتى ولو هدفنا له في ساحة القتالº فضلاً عن أن يغتالهن غيلة! يا لله ولهذا الظلم غير المسبوق في تاريخ هذه البلاد.

 

إن مجال الكتابة عن علي الطنطاوي واسع، والأمل بالله كبير أن يتعدل ميل الأيام، ويكتب عنه بإنصاف، حين يرفع نير الخوف والقمع والعزل والتجهيل المتعمد عن سماء بلادي، وعسى أن يكون ذلك إن شاء الله قريباً، ويومئذ يفرح المؤمنون. وعلي الطنطاوي قبل كل ذلك وبعده بشر، يخطيء، ويصيب، ولا ندعي له العصمة، ونحسب أنه عاش لمبادئه، ومات عليها، فنسأل الله له الرحمة والمغفرة، وللمسلمين الذين عاش لهم ودافع عن قضاياهم العصمة من الزلل والانتفاع بما ترك، وأن يبدلهم خيراً منه. اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله.

 

ـــــــــــ

[1] - مثل في الشام من العامي الفصيح، ومعناه: العطاء بلا حساب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply