أما جبلة فهي مدينة إسلامية تقع على الساحل الشامي. وأما قاضي جبلة فهو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة. وكان منصور والد أبي محمد قاضياً على جبلة أيضاً، فلما توفي خلفه ابنه أبو محمد. وكانت المدينة تابعة لجلال الملك علي بن عمار صاحب طرابلس، وكان أبو محمد نائباً عنه فيها. ولم يكن أبو محمد قاضاً وحسب، مجاله المحاكم ومجالس القضاء لا يتعداها، ويقضي وقت فراغه في قضاء كتب الشريعة والدين، وإنما كان إلى جانب ذلك جندياً باسلاً ومقاتلاً شجاعاً، اجتذبته الجندية، واستهواه القتال بأحبهما كما أحب الفقه وعلوم الدين، فارتدى إلى جانب عمامته لباس الجند، وأمسك مع القلم السيف والرمح، فإذا لم يكن هناك قتال ولا حرب، جلس للقضاء بين الناس، وعكف على كتبه يتدارسها، حتى إذا ما وجد ميدان حرب قد فتح، أو معركة قريبة منه تدور بين المسلمين والصليبيين، حمل السيف، وخاض المعركة، وقاتل قتال الجندي المحترف، أو قل، قتال المسلم المؤمن، فتظهر شجاعته، وتلمع بطولته، ويخرج من المعركة منتصراً مظفراً، يقطر سيفه من دم العدو الدخيل.
ولكن جندية أبي محمد أثارت مخاوف جلال الملك علي بن عمار صاحب جبلة وطرابلس، فقد خشي أن يستقل أو محمد بالبلد ويخرج عن طاعته، فعزم على القبض عليه، ففشل، فاضطر أبو محمد أن يعصى على مولاه وأن يستقل بالبلد، ما دام ابن عمار قد بدأه بالشر.
وفي الحق، أن أبا محمد لم يكن يدور بخلده أن يعصي علي بن عمار أو أن يخرج عن طاعته، وإنما هو أحب الجندية ليجند نفسه لله والمسلمين، فهو يمارسها ليؤدي حق الله عليه في نصرة دينه، وهو يهوى القتال ليصارع الصليبيين الذين دنّسوا أرض الإسلام بأقدامهم وجرائهم، ثم هو يشترك في القتال كلما دار القتال بين المسلمين والصليبيين، ولكن ابن عمار لم يفهم هذا، وإنما فهم فقط الخوف من أن نائبه على جبلة قد يعصى عليه، ويخرج عن طاعته عندما توانيه الفرصة، ما دام عرف كيف يمسك السيف ويضرب به، فبدأه بالشر، فأثاره عليه.
حاول ابن عمار أن يقبض على أبي محمد بالخديعة فلم يفلح، وكان ابن عمار لا يستطيع أن يخرج لقتاله خوفاً من أن يغير الصليبيون على مدينته طرابلس فيحتلونها، فحرّض دقاق بن تتش صاحب دمشق على حربه لقاء مبلغ من المال يدفعه له.
وكان دقاق من البلاهة بحيث استجاب لإغراء ابن عمار، فخرج بفرقة من جيشه وحاصر جبلة، ظناً منه أنها لن تقوى على محاربته، وأن قاضي جبلة الفقيه لن يقدر على الوقوف في وجه دمشق القوي. ولكن الفقيه الجندي، خيب ظنه وظن صاحبه ابن عمار فصمد له، واستطاعت حامية جبلة أن تحسن الدفاع على بلدها، وأن تصيب أثناء القتال القائد الدمشقي بسهم، اضطر على أثرها على الانسحاب بجيشه، والعودة إلى دمشق، وبهذا الانتصار ثبتت أقدام الفقيه الجندي في البلد وأصبح حاكمها المطاع، فقد أعجب أهل جبلة بشجاعة قاضيهم ورباطة جأشه، فدانوا له بالطاعة. وكان هذه إحدى بطولات أبي محمد، قاضي جبلة.
ثم يأتي دورة الصليبيين، وكان لا بد لهم من أن يتجهوا إلى جبلة، كما اتجهوا إلى غيرها من قبل من بلاد الساحل الشامي، فاحتلوا معظم بلاده. فساروا إليها في سنة 494 هـ، وحاصروها.
ظنوا أن جبلة الصغيرة الضيئلة لن تلبث حتى تنهار أمامهم كما انهارت أنطاكيا وبيت المقدس وغيرهما من المدن الكبرى، تحت ضرباتهم، وطوقوا جبلة وحاصروها أشد حصار، وأنشبوا القتال مع حاميتها الصغيرة وتنبّه أو محمد إلى الفارق الكبير بين قوته وقوة عدوه، ولمس استحاله الاستمرار في هذا القتال غير المتكافئ في العدة والعدد، ولكنه مع ذلك لم يفقد رباطة جأشه وإنما عمد إلى حيلة دلّت على ذكائه وفطنته، فأجرى في المدينة إشاعة تقول: أن جيش السلطان السلجوقي في طريقه إلى الشام لقتال الصليبيي، وأن الجيش مجدّ في السير فلا يلبث أن يصل سريعاً ويفتك بهم فتكاً ذريعاً. وتنقلت الإشاعة من مكان إلى مكان داخل البلد، ثم تخطت أسوار المدينة حتى وصلت إلى أسماع الفرنج فانتشرت بينهم، فدبّ فيهم الخوف، وارتعدت فرائصهم، وانحلت عزائمهم، وبعث الخوف فيهم قوة تركزت في سوقهم فأطلقوها للريح قبل أن يصل جند السلطان المزعوم فيمزقهم بدداً، وبذلك نجت جبلة من السقوط في أيدي الصليبيين...
ولكن لم يلبث الصليبيون أن علموا أن خبر خروج جيش السلطان إلى الشام ما هو إلا خدعة جازت عليهم من قاضي جبلة الكبير، فصدقوها غفلة منهم، فقد أخذوا ينتظرون وصول هذا الجيش طويلاً، ولكن جيش السلطان لم يأت، ولم يظهر له أثر.وأخبرتهم عيونهم وأرصادهم أن الطريق من العراق إلى الشام هادئ لا ينبئ عن خطر ولا يبين عن امدادات آتية إلى الشام، فعادت إليهم حينئذ عزائمهم من جديد، وتكتلوا مرة أخرى ثم اتجهوا إلى جبلة ليعاودوا حصارها، وليثأروا من صاحبها بعد أن غرر بهم، وأدخل في قلوبهم الخوف فجعلهم يفرون كالجرذان... ثم حطوا وراء أسوار جبلة، وضيقوا عليها الحصار، وأنشبوا القتال، واستبسل حاكم جبلة الفقيه وصدقت حاميتها وكل من استطاع من أهلها حمل السلاح من مسلمين ونصارى في الدفاع عنها، وللمرة الثانية تأكد للقاضي الجندي أنه لن يستطيع الصمود إلى النهاية أمام عدو موتو حاقد عليه، فأخذ يعمل فكره لإيجاد خدعة جديدة ينقذ بها المدينة وأهلها من وحشية العدو الهمجي، وتفتق ذهنه عن هذه الخدعة الجديدة. فقد أطلق في المدينة شائعة تقول أن امدادات هائلة آتية إلى الشام لقتال الصليبيين وإخراجهم من الشام أو القضاء عليهم، والامدادات هذه المرة آتية من مصر الموتورة من الصليبيين الذين سلبوها بيت المقدس، فجيش مصر آت للثأر لبيت المقدس الذي دنسه الفرنج بأقدامهم وبما سفكوا من دماء المسلمين حتى جرت الدماء أنهاراً. وكانت الشائعة منسوجة نسجاً متيناً ومحبوكة الأطراف. ومن ثم أخذ اسم مصر وجيشها المقبل إلى الشام للثأر لبيت المقدس ينتقل من فم إلى فم، حتى اخترق أسوار المدينة ووصل إلى سمع الصليبيين المحاصرين، وجازت الخدعة عليهم، وصدقوا ما وصل إليهم عن جيش مصر، فإن هذا الخبر يؤيده احتلالهم لبيت المقدس حقاً وإفسادهم فيه وذبحهم للمسلمين في عرصاته، وسرعان ما جمعوا أنفسهم وسلاحهم، وفروا من جبلة قبل أن يدركهم فرسان مصر فيقبرونهم تحت أسوارها...
وفطن الصليبيون بعد لأي، إن حاكم جبلة الفقيه قد خدعهم للمرة الثانية وغرر بهم، فاستشاطوا غضباً، وامتلأت قلوبهم سخطاً، فقد أصبحوا سُبة بين إخوانهم الصليبيي، وسخرية يتندر بهم أهل الشام مسلمين ونصارى، فجمعوا جموعهم للمرة الثالثة، وفي عزمهم هذه المرة أن يفتحوا البلد وينتقموا من حاكمها الماكر المخادع، ثم انتشروا حول البلد وأنشبوا القتال...
ولكن أبا محمد الفطن الذكي لم يخشَ هذا الحصار الثالث، ولم تنفذ حيله بعد. فإنه ما تزال في جعبته خدعة يضحك بها من هؤلاء المغرورين بكثرة عددهم وقوتهم، ويجعلهم نكتة أهل الشام جميعاً من مسلمين وغير مسلمين، ويجعلهم أيضاً هزأة بين إخوانهم الصليبيين. فقد رأى أبو محمد أن نصارى جبلة يقفون إلى جانبه، وأنهم يقاتلون العدو مع مواطنيهم المسلمين جنباً إلى جنب، وذلك لأنهم ساخطون أيضاً على الغزو الصليبي الممقوت، وكانوا يخافون إذا ما استولى الصليبيون على بلدهم أن ينالهم من القتل والسلب والنهب وهتك الأعراض ما نال غيرهم من أهل البلاد التي استولوا عليها، فهم قد سمعوا الكثير عن وحشيتهم، وهم يعلمون أن الصليبيين إن هم إلا وحوش، لا يهدؤون حتى يسفكوا الدماء، لصوص لا يرتاحون إلا إذا سلبوا أو نهبوا، همج لا يقيمون وزناً للشرف والعرض، الكل عندهم سواء، المسلم والنصراني واليهودي، فهم أمام وحشيتهم لا يفرقون بين دين ودين أو بين قوي أو ضعيف أوبين رجل وامرأة وططفل، ومن هنا كان تخوف نصارى جبلة من الصليبيين، ولذلك وقفوا إلى جانب حاكمهم القاضي وأبناء بلدهم المسلمين، يقاتلونهم، ويدافعون عن بلدهم وأنفسهم، بنفس الحمية التي كان يقاتل بها المسلمون.
تنبه أبو محمد إلى موقف النصارى النبيل وقتالِهم العدو إلى جانبه، فرأى أن يدخلهم معه في الخدعة الجديدة، وهو مؤمن بنجاحها لأنها ستدخل على الصليبيين في سهولة ويسر، ولن يداخلهم الشك فيها أبداً. وقام أبو محمد في تنفيذها في الحال، فاجتمع بكبار نصارى جبلة وعقلائهم، وعرض عليهم مشروع الخدعة وشرحها لهم، على أن يقوموا هم بتنفيذ الخطوة الأولى منها وعليها هو أن يتم الخطوة الأخرى، فأعجبوا بها، ولم يلبثوا أن وافقوا على القيام بها دون تردد.
وعند غروب نفس اليوم، تسلل من باب جبلة نفر وهو يستخفي، وأخذ يتلصص في مشيته خشية أن يراه أحد فيفشل في مهمته، حتى إذا اطمأن أن لا أحد يراه، تحول سريعاً إلى ناحية المعسكر الصليبي، وطلب من الحراس أن يأخذوه إلى كبيرهم وقائدهم لينهي إليه أمراً خطيراً... واجتمع المتلصص بقائد الصليبيين، وكشف له عن صدره، فإذا بصليب يتدلى من رقبته، واعتدل القائد الصليبي في جلسته، وجمع حواسه كلها ليستمع إلى النصراني، وهو يعرض عليه باسم نصارى جبلة مساعدته لاحتلال البلد، لأنهم كارهون للمسلمين وحكمهم وتعصبهم عليه، فهم يريدون التخلص منهم، ولن يأتي ذلك إلا بسقوط البلد في يدهم، والبلد حصينة وصاحبها عنيد، والمسلمون جميعاً، مقاتلين وغير مقاتلين، قد عاهدوا الله ألا يسلموا بلدهم إلا وهم جثثاً ميتة. لذلك دبّر نصارى جبلة خطة دخولهم البلد من غير قتال أو سفك دماء، وذلك عن طريق أحد أبراج البلد وعين له الرسول ذلك البرج- فما علىالقائد إلا أن يختار أشجع رجاله وأبطاله، ويتجمعون أسفل البرج، وسيدلي لهم حبل منه، فيتسلقه هؤلاء الأبطال، ويدخلون البرج في غفلة عن الحراس المسلمين، ثم يخرجون منه إلى داخل المدينة فيفاجئون حراس الأبواب ويقتلونهم، ثم يفتحونها للجيش فيدخلها وبذلك يملكون البلد دون أن يفقدوا رجلاً واحداً، أو تسفك من دمائهم قطرة.
لم يشك كبير الصليبيين في هذا الرسول وصدقه، بل تهلل وجهه فرحاً، فقد أتته الفرصة من السماء أو من الشيطان لكي يحتل البلد وينتقم من حاكمها اللئيم، ووعد الرسول أن سينفذ الخطة، وأنه سيكلف أخطر رجاله وأكثرهم بسالة للقيام بهذه المهمة، فعاد الرسول من حيث أتى، وفرحته بنجاح مهمته لا تقل عن فرحة القائد الصليبي، ثم دخل البلد آمناً مطمئناً، كأنه لم يصنع شيئاً، واتجه رأساً إلى أبي محمد، ليطلب منه أن يسمح للحبل أن يتدلى من البرج...
وتجمع تحت البرج ثلاثمائة مقاتل من عتاة الصليبيين وأجلادهم ينتظرون الإشارة، وما أن أظلمت الدنيا حتى أخذ الحبل يتدلى لهم من أعلى البرج، وما كاد طرفه يصل إليهم حتى تلقفه أولهم، وأخذ يصعد عليه، حتى إذا انتهى إلى داخل البرج رأى بريق السيوف يكاد يغشي بصره رغم الظلام، ثم لم تلبث أن هوت السيوف على عنقه ففصلته عن جسده، ثم وصل الثاني فكان مصيره مصير الأول، ثم الثالث والرابع والخامس... حتى وصل البطل الأخير فكان مصيره مصير رفاقه، فاستراحب السيوف عندئذ من عملها... وبدأ الفجر ينشر ضوءه على الكون وعلى جبلة وأسوارها، واستعد الصليبيون المحاصرون لجبلة استعداداً كاملاً لدخول البلد، وأنظارهم كلها متعلقة ببابها ينتظرون فتحه لهم... وفجأة وجدوا ما يتساقط عليهم من أعلا البرج ويقع تحت أقدامهم، فنظروا، فإذا هي رؤوس الثلاثمائة بطل الذين ينتظرون أن يفتحوا لهم باب البلد! فما أو رأوا هذه الرؤوس المتهاوية حتى جنّ جنونهم، وفهموا المكيدة الجديدة التي كادها لهم الحاكم الشيخ. فهموا أن نصارى جبلة ساخطون عليهم، وأنهم متضامنون مع إخوانهم المسلمين عليهم، فغرروا بهم حتى جازت عليهم الخدعة... فجمعوا أنفسهم وسلاحهم ورؤوس أبطالهم، ورحلوا عن جبلة في أسرع من رد الطرف، لا خوفاً ولا جزعاً، ولكن غضباً وحنقاً، وليدبروا أمراً خطيراً، ومكيدة تفوق مكيدة جبلة... حاكمها ومسلميها ونصرانيها.
اجتمع الصليبيون بعد هزيمتهم النكراء، وتشاوروا في أمر هذه البلدة الصغيرة التي استعصت عليها كما لم تستعص عليهم مدينة من قبل، وانتهى اجتماعهم على أن يعاودوا حصار جبلة، ولكنه لن يكون حصاراً فحسب، ولن يكون أيضاً قتالاً بالسيوف ورشقاً بالنبال، وإنما سيكون حصاراً يدكّ جبلة دكاً، لا يبقون منها حجراً على حجر. وعندئذ يدخلونها فيستبيحون دم أهلها، مسلميها ونصرانيها، الكبير والصغير، الرجل والمرأة، وينهبون أموالهم، ويهتكون أعراضهم، فقد أصبحوا لا يطيقون صمود هذه البلدة الصغيرة في وجوههم، ولا يصبرون على خدع صاحبها الفقيه ومكائده... ومن ثم أخذوا يصنعون برجاً قوياً من الخشب المتين يدكون به سور جبلة دكاً، ثم ينفذون منه إلى المدينة فيشفون غليلهم من غريمهم المكير، ويجندلونه بسيوفهم ويمتعون أنفسهم بمنظره وهو يتمزق بسيوفهم ويتلوى من الألم، ثم يطلقون الحرية لوحشيتهم في المدينة فيتصرفون فيها وفي أهلها كما يشاؤون. وسحبوا برجهم وأخذوا يغذون به السير، ثم انتشروا حول الأسوار وركزوا برجهم تحت أحد أبراج المدينة، وأخذوا يضربونه ببرجهم من الصباح حتى المساء حتى هدموه، ثم هدأوا بعد هذا الجهد العنيف المتواصل يستريحون في ليلتهم، وقد اطمأنوا إلى نجاح خطتهم فباتوا وهم يحدثون أنفسهم بدخول المدينة عند انبلاج الفجر، وهيأوا سلاحهم للمجزرة التي قرروا أن يجروها في أهل البلد المساكين...
وانبلج الفجر، واستيقظ الصليبيون على صوت المؤذن يلعلع في سماء جبلة يدعو إلى الصلاة، فأسرعوا إلى برجهم ليصعدوه، ومنه يدخلون إلى البرج المهدم، ثم ينسلون منه إلى داخل المدينة فيطبقون على أهلها وهم في غفلة بين مصل ونائم فيقتلونهم جميعاً... ولكن ما كادت تصل مقدمة الصليبيين إلى البرج المهدم حتى وجدوه... غير مهدم! وجدوا البرج الذي ظلوا يهدمونه من الصباح إلى المساء قد أصبح قائماً من جديد، فعقدت الدهشة ألسنتهم، يهدمون برجاً طول النهار ولا يبقون من حجراً قائماً على حجر فيبنيه أهل جبلة من جديد في الليل؟ إن هذا أمر لم يسمع من قبل... ومن ثم أخذوا يهبطون إلى الأرض وهم لا يدرون ما يفعلون...
ولكن قاضي جبلة لم يتركهم طويلاً في حيلتهم، فقد أقدم على عمل يفوق ما عمله في المرات السابقة، ففاجأهم بأن فتح لهم باب المدينة وخرج إليهم بشرذمة من حاميته ليقاتلهم، فأخذوا يتساءلون، أهي شجاعة خارقة من هذا القاضي الشيخ، أم هي لوثة أصابت عقله فهو لا يدري ما يفعل؟ ولم يملك الصليبيون معه إلا القتال، وكان هجومهم عليه عنيفاً فانهزم من بين أيديهم وفرّ، فتبعوه ليقبضوا عليه ويقضوا على رجاله، ثم ما لبثوا أن عرفوا جواب تساؤلهم، وعرفوا أن الرجل لم يفقد صوابه، ولم يلتاث عقله، وإنما هي مكيدة أخرى من مكائد حاكم جبلة الفقيه قد أحكم جوانبها، فقد فوجئوا بمن يضربهم من الخلف فيطيح أعناقهم فتحولوا إليه فإذا هم بقية حامية جبلة وأهلها قد خرجوا من ثقوب في السور ثقبوها بالليل دون أن يشعروا، وعندئذ فهموا المكيدة أن الحاكم الفقيه اتفق مع الحامية على ثقب السور، وأن يخرج هو من الصباح بعدد قليل من المقاتلة ليشغل الصليبيين، فإذا تقابلوا وجهاً لوجه ينهزم منهم فيتبعونه، وعندئذ تخرج بقية الحامية والمطوعة من الثقوب فيفاجئون الصليبيين من الخلف، وعندما يتحول الصليبيون لقتالهم يستدير هو إليهم بمن معه ويطبقون عليهم من أمام ومن وراء، ويقضون عليهم... هذا ما عرفه الصليبيون من مكيدة قاضي جبلة وهم يدافعون عن أنفسهم. ونجحت المكيدة إلى نهايتها، فقد قتل العدد الأكبر من الصليبيين الشجعان، وفرّ من استطاع الفرار، وانتهت المعركة بأسر قائدهم الهمام واستيلاء أهل جبلة على معسكر الصليبيين وبرجهم. وهكذا نجت جبلة للمرة الرابعة من السقوط في أيدي الصليبيين بفضل القاضي الفقيه ابن صليحة.
ولكن، هل هذه آخر بطولات ابن صليحة وتضحياته؟ لا، فقد أقدم ابن صليحة على تضحية تعتبر من أعظم التضحيات وأخطرها في تلك الفترة، ذلك أن ابن صليحة رأى أن الصليبيين لن يتركوه أبداً، وأنهم لم ينسوا مكائده وخدعه، وأن الهزيمة الشنيعة التي ألحقها بهم ستجعل جبلة دائماً مطمع أنظارهم، ورأى أيضاً في نفسه عدم القدرة على الاحتفاظ بالبلد إذا ما هوجم مرة أخرى، فالصليبيون لن يأتوه بعد ذلك إلا في جحافل لا يستطيع ردها، وهنا نسي شخصه، ونبذ مصلحته الخاصة، فأرسل إلى طغتكين صاحب الشام يعرض عليه تسليم البلد إليه فهو أقدر على حفظها منه، فلديه جيش قوي يستطيع به الاحتفاظ بالبلد، وأنه عزم على المسير إلى بغداد ليجاور الخليفة ويسترح، ويقضي بقية عمره في مدينة السلام. فاستجاب صاحب الشام له وأرسل ابنه تاج الملوك بوري وتسلّم البلد، وخرج أبو محمد من جبلة إلى دمشق ليرحل منها إلى بغداد، فاستقبله طغتكين أكرم استقبال، واحتفى به حفاوة عظيمة، ثم سيّره إلى بغداد تحت حماية فريق من جنده حتى وصل إليها، فأقام بها إلى أن توفاه الله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد