\"...وحتى نخرج من هذا علينا أن نقرأ التاريخ قراءة واعية مستوعبة لتجاربة رابطة بين أحداثه بعيدًا عن الانفعالات النفسية وتحكم الأهواء، وهذا مع الأسف إحدى المميزات التي جعلت شعوباً أخرى تتقدم علينا وتتأهل للريادة... \"
لا تقتصر دراسة التاريخ على المتعة التي يجدها المطلع في سير الأقدمين وما جرى لهم من ترف وعلو شأن أو مصائب ونكسات، فالنفوس تتشوف للقصص التاريخي وتلذ لسماعه وتطلب المزيد منه، وتفزع إليه حينما يصيبها الملل أو التعب.
ويذكر الطبري في تفسيره أن الصحابة - رضي الله عنهم - أصابهم الملل يومًا ما فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقص عليهم فأنزل الله - تعالى - سورة يوسف أورد فيها قصة يوسف - صلى الله عليه وسلم - كاملة من المنشأ حتى الوفاة، بل تتجاوز دراسة التاريخ المتعة إلى ما هو أهم وأجدى وهو أخذ الدرس والعبرة والعظة من أحوال المتقدمين والاستفادة من تجاربهم.
وقد أرشد القرآن في آيات عديدة لهذا الأمر وحث على العودة للتاريخ واستقراء العبر والعظات من حوادثه وتجاربه، ففي قوله - تعالى -: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} إرشاد إلى استقراء التاريخ المحسوس المشاهد وهو آثار أولئك الأقوام وديارهم وما خلفوه ورائهم وعدم الاقتصار على التاريخ الروائي فقط، لأن التاريخ المحسوس المشاهد له أثر أقوى في قلوب وعقول مشاهديه.
وفي آية أخرى يقول - تعالى -: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فهو إرشاد إلى أخذ العبرة من تجربة الآخرين وقياس النفس عليهم، فنحن بشر مثلهم أتتنا رسالة مثلهم، فإن اتبعنا طريقهم أصابنا ما أصابهم، وسوف يجري علينا من سنة الله في التاريخ ما جرى عليهم.
وفي هذا العصر نشطت الدراسات التي تعنى باستقراء التاريخ وإعادة تقييمه، ومحاولة الاستفادة من تجاربه، ولعل الجميع ينادي بالاستفادة من التجارب التاريخية، ولكن الصعوبة تمكن في أن التجربة وفهم أبعادها تعطي حكمًا خاصًا بمن جربها وعاشها، وغالبًا ما تعطي شعورًا وأحاسيس أكثر مما تعطي معلومات وحقائق، كذلك نقل التجربة بأبعادها وحقائقها ممن عايشها يكتنفه كثير من الصعوبة، وما الصراع بين الأجيال إلا حول محاولة السابقين نقل التجربة، ومحاولة اللاحقين رفض نقل التجربة من باب رفض الوصاية والانطلاق بتجربة جديدة لا علاقة لها بالسابقة أي منقطعة عنها تمامًا، ثم يأتي الجيل الذي بعدهم بانقطاع أيضًا، وهكذا تتراكم الانقطاعات ونبقى ندور في نفس الدائرة، وحتى نخرج من هذا علينا أن نقرأ التاريخ قراءة واعية مستوعبة لتجاربة رابطة بين أحداثه بعيدًا عن الانفعالات النفسية وتحكم الأهواء، وهذا مع الأسف إحدى المميزات التي جعلت شعوباً أخرى تتقدم علينا وتتأهل للريادة حيث استقرأوا التاريخ وحوادثه وربطوا حاضرهم بماضيهم واستفادوا من تجارب السابقين.
فالولايات المتحدة مثلاً لديها عشرات المراكز المتخصصة لدراسة التجارب التاريخية، وصدر منها كثير من الدراسات العميقة، ومنها على سبيل المثال دراسات حول أسباب انهيار الدول والحضارات حتى يحافظوا على شباب حضارتهم ويبعدوا عنها شبح الشيخوخة ومن ثم الأنهيار.
والدولة الصهيونية لديها أكثر من مركز متخصص في دراسة فترة الحروب الصليبية، حتى يستفيدوا من تجربتهم في اجتياح العالم الإسلامي وبقاءهم فترة طويلة، فحتى يستطيع الصهاينة تحقيق توسعهم السرطاني في جسد الأمة ويطيلوا فترة بقائهم أقصى مدة ممكنة عملوا على دراسة عصر الحروب الصليبية.
والفكرة المسيطرة على الغالبية منا أن الأجيال السابقة لها ظروفها الخاصة وتجاربها الأكثر خصوصية، كما أن طبيعة عصورهم مختلفة جدًا عن عصرنا، فكل أمة تعيش في شبة عزلة بعاداتها وأفكارها وطبائعها لذلك يوجد التشابه بين تجاربهم، أما في عصرنا هذا عصر القرية الواحدة حيث انعدمت الحدود وتلاشت الفوارق الكثيرة بين الأمم بسبب التقدم الهائل في وسائل التقنية والاتصال والصناعة الإعلامية، فأصبحت حركة المجتمع ومتغيراته والعوامل المؤثرة فيه مختلفة تمام الاختلاف عن العصور السابقة، وقد يكون في هذه النظرة الباهتة جزءًا من الحقيقة لكنها جافت كامل الحقيقة، فالأجيال السابقة لم تكن كل أمة معزولة لوحدها كما يحصل في بعض القبائل في أدغال أفريقيا أو استراليا حيث كانت تعيش في عزلة تامة عن غيرها، فالتاريخ يثبت اتصالات واسعة كانت تتطور بمرور الوقت نقلت بسبها الأفكار والمعتقدات والصناعات والعلوم وغيرها من شرق الأرض إلى غربها والعكس كذلك، وعصرنا كغيره من العصور هو عصر الغالب الذي يفرض أفكاره ومعتقداته وطبائعه بشتى الوسائل ويحاول محو ماعداها، على أن هذه النظرة الظالمة للماضين تصل أحيانًا لأجيال قريبة شاركتنا في كثير من ظروف وطبيعة عصرنا، لكنا نرفض تجاربها بحكم إنها أصبحت من الماضي، ولو وعينا التاريخ حق الوعي ما كان هذا حالنا.
ولو ألقينا نظرة خاطفة في المائة سنة الماضية من تاريخنا المعاصر لوجدنا أنها مكتنـزة بالتجارب الثريّة وقد عايشنا بعضها أو عايشنا من عايشها، وقد تميز القرن الماضي بأنه قرن التجارب على مستوى العالم، فكل فكرة بقيت جامدة على امتداد التاريخ دبت فيها الحياة وتمثلها أقوام في هذا القرن، والعالم الإسلامي ليس معزولاً عن العالم، فقد تأثر إيجابًا قليلاً وسلبًا كثيرًا بما حصل من أحداث على مستوى العالم، كما أن هذا القرن تميز بأفكار الإصلاح والنهضة والمد والجزر في العمل الإسلامي.
وتشتد حاجتنا بالوعي بهذه التجارب خاصة ونحن الآن نمر بمرحلة مخاض عسير بعد تحطم السفينة وضياع البوصلة وفقدان القبطان وكثافة الضباب وقوة الموج ونحن في لجة البحر تتقاذفنا الأمواج في جميع الاتجاهات فلا نستطيع تمييز الطريق الصحيح، ولم نجد من يمسك بالدفة ويصلح عطلها بل من يلملم شتاتها، فاستحضار التجارب ووعي الدروس من أهم ما نقوم به في هذه المرحلة.
ولو أردنا استعراض جميع التجارب التي حصلت لطال بنا المقام ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
(1)
ولنبدأ بالصدمة الحضارية التي أصابت العالم الإسلامي عمومًا والمبتعثين للدراسة في الغرب خصوصًا، حينما أفاق العالم الإسلامي على تاريخ مزهر وواقع مخجل، وعدو متفوق متقدم غزاة في عقر داره بخيله ورجله وأفكاره وصناعاته، فأدت الصدمة إلى خلخلة الاتزان التي مازلنا نعاني منها حتى إشعار آخر، ومن أكثر الأمور عجبًا ذلك الشيخ الأزهري المعمم الذي أرسل في بعثة ليكون مفتيها ومرشدها، ولتكون مواعظه حصنًا لهم ضد التأثيرات، فكان أولهم تأثرًا وأسرعهم في تلقي الفكرة الأوربية واحتضانها وأجرؤهم في نقلها بحذافيرها للعالم الإسلامي، وهنا تساءل لماذا تأثر هذا الشيخ وأمثاله؟ بل كانوا على رأس المتأثرين.
فالمفترض أن يكونوا الحصن الأخير المقام والحامي لأفكار الأمة وعقائدها، هل هناك خلل في إعداده لمواجهة المتغيرات؟ وهل كان التعليم الديني منغلقًا - كما يدعيه البعض - ومانعاً العقول من التفكير، فينهار الطالب عند أول صدمة ويستسلم استسلامًا كليًا؟
قد يقال: إن تأثره بسبب الظرف التاريخي، فقد كان مع بداية الاحتكاك بين الشرق والغرب، ولم يكن المجتمع - والعلماء جزء من تكوينه - بعون هذا الفارق الثقافي والحضاري ولا كيفية التعامل معه، لكن بعد ذلك وعوا التجربة وعملوا على تحصين طلابهم فكريًا وثقافيًا ضد هذا النوع وأمثاله من الغزو.
هذا ما نتمناه ولكن هل وعينا التجربة وعيًا متكاملاً؟ أشك في ذلك بدليل التأثر بل التساقط المستمر إلى يومنا هذا وإن اختلفت طريقة التأثر.
ثم ما ترافق مع الصدمة من محاولة مستميتة للتوفيق بين الإسلام وبين ما أنتجته تلك الأمم من فكر وثقافة، وقد اكتنف محاولة التوفيق هذه كثيرًا من التجاوزات كان الغبن يقع فيها غالبًا على الدين وثوابته، وقد تفرع عن هذا خلاف في المقبول والمرفوض من نتاج الغرب، وربما تواضعوا على حل نظري وهو أن نستقدم التقنية وما ينفعنا، ونرفض الأخلاق والأفكار، ولم يطبق هذا الحل ولا نعرف كيف يطبق وكان التوصل إليه تصوريًا لم يخضع لدراسة جادة.
وقد تزامن مع هذا أيضًا أطروحات النهضة والمحاولة للعودة بالأمة لأمجادها الغابرة، حينما أدرك المسلمون أنهم في ذيل الأمم، وقد سبقتهم سبقًا كبيرًا على كافة الأصعدة، فكثرت أطروحات النهضة وتنوعت بتنوع المشارب، وكل يدلي بدلوه ويرى أن ما قدم هو الحل الأمثل لانتشال الأمة من هذا الواقع المؤلم، وكانت الحلول تبنى على تشخيص الداء، وهو (سبب التخلف).
والجميع مازال يطرق عقله وفكره السؤال الخالد الذي لم يحد إجابة جادة عليه: \"لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ \" فالتشخيصات كانت نظرية وأقرب وعلاجاتها كانت نظرية أيضًا وأقرب للخيال، وقد اختلفت بينها اختلافًا كبيرًا وبل وتصادمت، ولا نزال نعاني إلى يومنا هذا من اختلافها وتصادمها وتكرر الأخطاء نفسها.
فالكواكبي على سبيل المثال شخص داء الأمة في الاستبداد، والنتيجة أن دوائها في مقاومة الاستبداد بكافة أشكاله.
والشيخ محمد عبده يشخصه في سوء فهم الدين وسوء التعامل معه من قبل حملته، فنادى بما يسمى بالإصلاح الديني وأصبح مشروعه الأكبر بعدما تخلى عن المشروع السياسي الذي كان متابعًا فيه لشيخه الأفغاني ولعن السياسة ومشتقاتها، ونادى بالإصلاح الديني في جوانب شتى، فنادى بإصلاح الأزهر، وإصلاح المناهج الدينية وطريقة التعليم الديني، ودعا لنبذ التفكير وحارب الخرافة التي تغلغلت في عقول الناس وحياتهم ولبست لبوسًا دينيًا، وبطبيعة الحال اصطدم مع أصحاب الاتجاهات التي نادى بإصلاحها ووجد مؤيدين من طوائف وأفكار مختلفة تدثروا بعباءته الواسعة الفضفاضة.
ولما توفي ظهرت انقساماتهم وضرب كل في واد، والرجل من أكثر الشخصيات التي اختلف الناس حولها بين مؤيد مطلق له ولكل ما يقول، وبين نابذ له ولجميع ما يقول، وهذا إجحاف كبير، فالرجل يؤخذ من كلامه ويرد، وله أطروحات وأفكار جيدة، كما أن له سقطات مريعة، وكيثرًا ما يصدم النابذون له بمقولات له تتوافق مع فكرهم، والعكس كذلك.
والموقف العدل أن تدرس تجربته كاملة وافية يؤخذ فيها الاعتبار بالظروف التي عايشها وطبيعة زمانه ومصادر الثقافة فيه، والعوامل الداخلية والخارجية التي أثرت فيه، ثم تدرس تطورات مدرسته ومنهجه وتأثيره فيمن خلفه، ولا يؤخذ الرجل جملة أو يترك جملة.
وتزداد أهمية دراسة محمد عبده في هذا الوقت بالذات، لأن الدعوة للإصلاح الديني عادت جذعه ونخشى أن نكرر نفس الأخطاء التي من ضمنها أن يكون الإصلاح استجابة لضغوط خارجية وليست حاجة داخلية، فمشكلتنا بل مشكلاتنا ليست مع فهم الدين وتطبيقه فهو مَقصي من حياتنا إلا في القليل.
إضافةً مثل هذه الدعوة وأمثالها يدخلها من ليس من أهلها وفي قلبه دغل على الدين وأهله، فيشطح بها بعيدًا. وربما دعا لإصلاح حتى اليقينيات.
(2)
ونعرّج بعد ذلك على الدعوة التي اشتهرت باسم التقريب بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، حيث رأت زمرة أن السيطرة الواسعة للغرب في كافة الجوانب السياسية و الاقتصادية والثقافية، إضافة للقوة العسكرية الضاربة والتقدم التقني المذهل، ثم سمعوا عن الادعاءات التي أطلقها مفكرون غربيون عن التسامح وقبول الرأي الآخر والبحث عما يسعد الإنسان أيًا كان مصدره، وجعل العقل هو الحكم في جميع القضايا الخلافية فتوهموا أن الغرب لو اقتنع بفكرتنا وأطروحاتنا الإسلامية فسوف يدخلون في دين الله أفواجًا، وتصبح قواهم العسكرية والاقتصادية وغيرها في خدمة الإسلام، بل إن الناس سيدخلون في الإسلام تبعًا للغرب فهم بطبيعة وضعهم تبع لهم في كل شيء، ولكن وقف في سبيل تطبيق هذا المشروع عقبات وأسوار وخنادق، فهم رأوا أنهم لو قدموا لهم الإسلام بوضعه الصحيح بيقينياته وأحكامه فسوف يرفضون لكن إن مارسوا عليه بعض عمليات التجميل - أقصد التشويه - فحذفوا وغيروا وبدلوا كل ما يتعارض مع الفكرة الغربية وقدموا لهم الفكرة الإسلامية من الجانب الذي يحبونه فسوف يقتنعون بالإسلام شيئًا فشيئًا.
والنتيجة تتلخص في عبارة قيلت في بعضهم: \"قرب الأزهر إلى الغرب خطوات ولم يقرب الغرب إلى الأزهر خطوة واحدة\"، لقد وقع الضيم والظلم مع الأسف على الإسلام وحده، فنفوا بعض اليقينيات، وحذفوا كثيرًا من الأحكام وانتفوا من أقوال العلماء مالا يتعارض مع الفكرة الغربية حتى لو عارض الدليل، ومما قاله أحدهم: \"لا مانع من الأخذ بالقول بجواز أن تلي المرأة تزويج نفسها طالما أن يتعارض مع الفكرة الغربية\"، وبعض الشخصيات الفلسفية الغربية التي أظهرت ميلاً للإسلام إنما كان في الغالب قناعة فلسفية، فهو يرى مثلاً أن النظرية الاقتصادية الإسلامية أفضل من غيرها في استثمار الأموال، أو يميل إليه من زاوية سياسية أو اجتماعية لكنه لم يقتنع به كدين ويسلم وجهه لله كما ينبغي، ولذلك إذا سمعت أطروحاته وجدها تتنافى كثيرًا مع الإسلام.
والآن الدعوة تعود من جديد في ظل الهجوم الغربي البربري على الإسلام واتهامه بأنه مصدر التطرف والإرهاب. ويقول أصحاب هذه الدعوة لماذا لا ينصب خطابنا على المفكرين الأحرار في الغرب؟ دون المتعصبين منهم وأصحاب القرار السياسي، أما التجربة السابقة فلنا غنمها وعليهم غرمها وخطابنا معهم لن يؤثر سلبًا على ديننا، وهذا ما نتمناه إن أمكن تحقيقه، لكن لابد من وعي التجربة قبل الإقدام عليها، ولسنا أفضل ممن سبق، والسالك في طريق لابد أن يصيبه ما أصاب من سلك قبله، وهذا سنة تاريخية، فمن كان في بداية الطريق فالخيار كاملاً في يده ليسلك أو يتنحى، أما إذا ركب متن الطريق لابد أن يفرض عليه جميع نظام ذلك الطريق ويسير بنفس الطريقة التي يسير بها البقية فهو لا يتميز عن غيره وربما تكون التنازلات بداية طفيفة لكنها تزيد كلما توغل في الطريقة، ولا أدعو إلى ترك هذا السبيل مطلقا ولكن أكرر لابد من وعي التجربة كاملة، ثم الوعي بطبيعة وعقلية مفكري الغرب وكيفية مخاطبتهم.
(3)
وإذا انتقلنا لتجربة الجماعات الإسلامية - والحديث ذو شجون - وبدءًا بجماعة الإخوان المسلمين أو الجماعة الأم كما يحلو لأتباعها أن يطلقوا عليها وما تفرع عنها من جماعات أو نشأت مستقلة عنها، فدراسة ظروف نشأتها ومسارها ومبادئها والتغيرات التي طرأت عليها، وثباتها على مبادئها الأولى أو انحرافها عنها، وجدوى العمل تحت ظلالها أو الاستقلال عنها، وأثرها في تنظيم العمل الإسلامي وبعض المساوئ المرافقة مثل العصبية للجماعة والنبذ والإقصاء لكل من خالفها ولم يستظل بظلها.
ونحط رحالنا في فترة الصحوة الإسلامية المباركة بتجربتها الثرية المتشبعة الواسعة، بدءًا بظروف انطلاقها واكتساحها للشارع الإسلامي، فنحن نعتمد في تفسير انطلاقها على ما يكتبه أعداؤها حيث يختلفون تحليلات باهتة واهية لأسباب انطلاق الصحوة وقوتها وانتشارها، فبعضهم فسره بفشل المشروع القومي الذي أخذ بقلوب الناس ثم تبين أنه كذبة العصر وأن إبطاله من شموع سرعان ما ذبت تحت شمس الحقيقة فكان فرصة كبرى لانطلاق المشروع الإسلامي، وبعضهم عد الفقر في الدول الفقيرة والغنى في الدول الغنية سببًا، ولا أدري كيف يقبل هذا التناقض ولكنهم يستخدمون أي تعليل في سبيل خدمة فكرتهم وإسقاط مخالفهم.
إن هذا الأمر (أقصد بداية الصحوة ونشأتها وتطورها) يحتاج لدراسة وتأمل حتى نوفر لهذه الصحوة الاستمرار ونجدد شبابها باستمرار فتتأخر شيخوتها التي بدأت علاماتها تظهر مبكرة جدًا، ولا ننسى التأكيد على النظر في مسيرة الصحوة وما اكتنف هذه المسيرة من معوقات وعقبات وصمودها أمامها إلى أن بدأ الضعف والتراجع والانهيار النفسي في صفوف أبناءها، وكذلك طبيعة خطابها الجماهيري حيث كان يخاطب الفئة العريضة من أبناء الأمة وكان قريبًا لمشكلاتهم وهمومهم بعكس الخطاب العلماني الذي كان نخبويًا فاختنق في فئة تخاطب نفسها ولا يشعر بها أحد.
وهل إهمال الصحوة للخطاب النخبوة كان خطأ ينبغي تداركه أن استطعنا ذلك، فالصحوة اتكأت كثيرًا على نجاح الخطاب الجماهيري والتفاف الشباب حولها فخطابها كما ذكرنا سهل وقريب من القلوب، ولكن الخطأ يكمن في أن المراهنة على التفاف الجماهير وإهمال النخب مراهنة خاسرة، لأن هذه الجماهير سرعان ما تنفض عند أول إحساس بالخطر ولا تصمد أمام التأثيرات والمتغيرات، ولعل التوازن هو الأجدى وأكثر شباب الصحوة عندما شبوا عن الطوق وما عاد يشبع نهمهم المعرفي الأطروحات السابقة، ووجدوا بغيتهم في الخطاب العلماني الجديد المسمى زورًا وبهتانًا بالخطاب الإسلامي المستنير، فانصرفوا إليه، وأقبلوا يلتهمونه بكبير نهم وقليل فهمº فأدى بتساقط كثير منهم، وانحرافهم عن الصراط، وأصبحوا ينادون بعكس الأفكار التي تبنوها وآمنوا بها، بل أصبحوا يعادونها ويعادون أهلها.
وإلى الآن هل استوعبنا هذا التغير وهذه المرحلة، هل سينتبه الحرس القديم للصحوة لتطورات العصر ويأتي بخطاب يوافقها، لأن بعض الخطابات القديمة تجاوزها الزمن، وفي المقابل هل سينتبه الجيل الجديد الذي يدعو لمشروع ما بعد الصحوة إلى خطورة كثير من الطرق التي يسلكونها بل إن بعضهم أصبح لعبة في أيدي العلمانيين يوجهونه كيفما شاؤوا، وأصبح بعضهم أشد على الإسلام من أعدائه، ثم نتساءل هل كان عزل الطلاب عن الكتابات المنحرفة أجدى كما كان يمارس أم تبصيرهم بها وتحصينهم ضد ضلالاتها هو الأجدى، هل كان جهل الشباب بهذه الأفكار ثم انتشارها وصد لها إليهم رغم الخطر جعلهم يقعون فريسة لها؟
البعض يتهم مشايخ الصحوة أنهم منعوا من قراءة هذه الأفكار وأملوا عليهم رأيًا واحدًا، وكان الأجدى ألا يمنعوهم عنها بل يبصرونهم بكيفية التعامل معها ويوسعون أفقهم فلا يتأثرون بها، ولكن هذا رأي مجرد تصوري والأولى دراسة هذه التجربة والخروج بعد ذلك بالرأي الأقرب للصواب.
وأما الدروس العلمية التي انتشرت في كل مكان بسبب اهتمام الصحوة بجانب العلم الشرعي، هل الدروس بهذه الطريقة مجدية وتخرج علماء؟
(4)
ولا ننسى التجربة الجهادية حينما انطلق الجهاد من أرض الأفغان ووقفت الأمة خلف المجاهدين الذين أوقفوا المد الأحمر الشيوعي بلن كانوا أحد أسباب سقوطه، وكان لانتصاراتهم على الشيوعيين أكبر الأثر في الروح المعنوية لدى الأمة، واستعادة جزء من كرامتها، بل لعله السبب الأكبر في انتشار الصحوة في فئات الشباب فيمموا نحو أفغانستان من كل مكان وحدث النصر الكبير على الشيوعيين، ثم حدث الاختلاف الكبير بينهم والتقاتل بينهم مما أدمى قلوب المؤمنين وأخجلهم وقد كانوا رافعي الهامات بأمجادهم، ثم القطيعة الكبيرة بين شباب الجهاد ومجتمعهم بُرمّته واضطراب الهدف الجهادي وعدم وضوحه عند بعضهم حتى عدّوا الصديق عدوا، فهل كان اختلال الموازين في الجهاد في وقت كانت الأمة مستفيدة من وجود التنافس بين القطبين؟ ثم قبول العون من أمريكا المسيحية العلمانية هل كان يصب في مصلحة الإسلام؟ أو على الأقل حقق مصلحة مشتركة لهم فمدوا لهم أيديهم ثم كشروا لهم عن أنيابهم، لينتبه الإسلاميون الذين يضعون أيديهم في يد أمريكا بدعوى تحقيق مصلحة مشتركة لمثل هذه التجربة.
ولكن السؤال الأهم كيف نستفيد من تجاربنا؟ ولعل التنظير أسهل عمل يقوم به الإنسان لكن حسبه هنا ما بوسعه، ولعله يأتي من يخرج الفكرة من حيز التنظير إلى حيز التطبيق، وربما تتلخص الإجابة في نقاط:
1- إنشاء مراكز متخصصة لدراسة التجارب التاريخية، وتكون الدراسة على أحدث وأفضل المناهج التاريخية لاستقراء التاريخ الإسلامي.
2- أن تكون الدراسة مجردة للبحث العلمي بعيدًا عن إضفاء التمجيد أو كيل الاتهامات.
3- لا نغفل الجانب الديني في دراستنا على التاريخ، فالبعض يظن أن الدراسة المنهجية العلمية تستبعد التفسير الديني للتاريخ، كما أنا لا نقتصر عليها، بل نستفيد منها ومن المناهج الأخرى بطريقة لا يطغى أحدها على الآخر.
4- الحاضر امتداد للماضي والمستقبل امتداد للحاضر، ومن الخطأ القطيعة بين هذه الأزمنة الثلاثة فحاضرنا يبني على ماضينا شئنا أم أبينا والمستقبل ثمرة الحاضر، فإذا وعينا هذا نظرنا للماضي نظرة المستفيد المجرب وأكملنا سيرة البناء مع حذرٍ, ووعي أكبر، ثم حولنا الحاضر إعدادًا للمستقبل لتكون مخرجاته صالحة للمستقبل ومن هنا تأتي أهمية الدراسات المستقبلية، فالبعض بهملها ويطن أن الحاضر هو نهاية التاريخ فيعمل مخرجاته على وفقه، ولا يحدث تغير إلا ويهب إليه كأنه النهاية ويهدم بناءه الذي كان عليه فيتجاوزه الزمن وهو لا يشعر والمجتمعات التي نهضت والتي استمرت في نهوضها اهتمت بهذا الجانب، فالبقاء الآن للأسرع بجانب الأقوى.
5- استيعاب جميع القدرات وتنوع التخصصات فالعمل يحتاج لكل خبرة وقدرة ولا تستطيع عقلية واحدة أن تقدم الدراسة الصحيحة بمفردها فقد انتهى زمان حكيم القرية.
6- أن يكون حكمنا على الأشخاص والمواقف والحوادث شموليًا ينظر للقضية من كافة جوانبها دون الاقتصار على جانب واحد فقط، وإذا حاكمنا تجربة نحاكمها بعد دراسة ظروفها والعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة فيها وسياق زمانها لا زماننا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد