أوراق متناثرة في تاريخ الصحافة الإسلامية.. ( 5 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم  

\"... في مواجهة هذا البحر المائج المتلاطم من الغارات الوقحة على مسلّمات الأمة و ثوابتها، انبعثت صرخات مخلصة تذبّ عن دينها و هويّتها، إلاّ أنها كانت أصواتاً مبحوحة و مشتـّـتـة تفتقد عوامل الترابط و التنظيم، فضاعت أصداؤها في خضمّ هدير أمواج التغريب... \"

تعرّضت مصر في مطلع القرن العشرين ميلادي إلى شلاّل هادر من قوى الغزو الفكري المدمّر، يمارس العبث بثوابت الأمّة الإسلامية و تخريب قيَمِها الأصيلة مشمولاً برعاية الاستعمار الإنجليزي الجاثم على أرض الكنانة آنذاك، والذي كانت تلوذ به و تنضوي تحت جناحه هذه القوى المخرّبة.

و لقد بلغ هذا المدّ الطامي مداه حينما أصدر \" طه حسين \" كتابه: \" الشعر الجاهلي \" الذي شكّك في وجود إبراهيم و إسماعيل - عليهما السلام - رغم ذكرهما في القرآن الكريم، و كذلك كتاب الشيخ \" علي عبد الرازق \" الموسوم بـ \" الإسلام و أصول الحكم \" الذي أنكر فيه وجود نظام سياسي في الإسلام، و ادّعى بأنّ الإسلام دين روحي فقط و لا يختلف في هذا السبيل عن النصرانية، ليوفّر بذلك تبريراً \" شرعيّا ً\" يهوّن على المسلمين مصيبة إلغاء الكماليّين للخلافة الإسلامية، و تحويلها إلى دولة علمانية.

في مواجهة هذا البحر المائج المتلاطم من الغارات الوقحة على مسلّمات الأمة و ثوابتها، انبعثت صرخات مخلصة تذبّ عن دينها و هويّتها، إلاّ أنها كانت أصواتاً مبحوحة و مشتـّـتـة تفتقد عوامل الترابط و التنظيم، فضاعت أصداؤها في خضمّ هدير أمواج التغريب و الغزو الفكري الصاخبة.

و في عام 1926 التقى مجموعّة من الشباب المسلم المتحمّس في دار المطبعة السلفية في شارع خيرت في القاهرة، منهم: محب الدين الخطيب، و أحمد تيمور باشا، و أبو بكر يحيى باشا، و عبد الرحمن قراعة، و السيّد محمد الخضر حسين، و علي جلال الحسيني، و غيرهم من الشباب المسلم الذي ذهبت نفسه حسرات على ما آل إليه الحال في أرض الكنانة من عدوان سافر على ثوابت الأمة و هويّتها العربية الإسلامية، و آلمه الضعف الذي اعترى المسلمين فمنعهم من الدفاع عن دينهم.

فتمخّض هذا الاجتماع عن إنشاء جمعية لمقاومة هذه الانحرافات و مجالدة المفسدين بالحجة و البيان.

و بعد إنشائها بأشهر بدا لهم أن الجمعية بحاجة إلى صحيفة تعبّر عن رأي هذه الجمعية، و تساهم في توصيل أفكارها لأكبر شريحة من الرأي العام و لا سيّما الشباب المثقف المسلم.

لكن الحصول على امتياز صحيفة إسلامية في ظل تلك الظروف كان أشبه بالمستحيل، بيد أن الأستاذ الجليل \" أحمد تيمور باشا \" - رحمه الله - بذل جهوداً طيبة و مشكورة لا ستصدار امتياز مجلّة، فوُفّق في هذا السبيل، و أصدرت تلك المجموعة مجلّة أُطلِق عليها اسم: \" الفتح \"، و صدر أوّل عددٍ,ِ منها في يوم 29 ذي القعدة من عام 1344 هـ، الموافق 1 يونيو 1926 م، و تسلّم رئاسة التحرير فيها الشيخ الأزهري عبد الباقي سرور، ثم بعد ذلك تولى دفّتها الأستاذ محب الدين الخطيب - رحمهما الله - حتى إغلاقها.

و كانت المجلّة في موضوعاتها و مادّتها الإعلامية سيفاً مصلتاً في نحور دعاة الغزو الفكري و التغريب و التنصير و الاستشراق، هذا إلى جانب اهتمامها بأحوال المسلمين في كل مكان، فسدّت بذلك ثغرةً كبيرةً رغم إمكانياتها المتواضعة، و ضيق هامش الحرية الممنوح لها.

فكانت مجلة \" الفتح \" بحق منبراً حراً أصيلاً لا نظير له، بفضل الروّاد و العمالقة من أمثال: أحمد محمد شاكر، و أخيه: محمود، و شكيب أرسلان، و مصطفى صادق الرافعي، و شيخ الإسلام في الدولة العثمانية: مصطفى صبري، و محمد الخضر حسين، و علي الطنطاوي، و تقي الدين الهلالي، و غيرهم ممن طرّزوا حواشي هذه المجلة بإبداعاتهم، و آثارهم القيّمة.

 

المجلة و التغريب و الغزو الفكري:

تولّت المجلة مهمّة الردّ على \" طه حسين \" بعد إصداره كتابه \" الشعر الجاهلي \" الذي تضمّن جرأة كبيرة على القرآن الكريم، و أشعل بكتابه هذا فتيل المواجهة بين طه حسين و حزبه التغريبي و بين العلماء و الدعاة، فانبرى له العديد من كُتّاب \" الفتح \" و فنّدوا شبهاته و آرائه الخطيرة أمثال: عبد الرزاق الحسني، و عبد الباقي سرور، و غيرهم، و عن هذه المعركة تقول المجلة مشيرةً إلى مصدر أفكار طه حسين: \" ما في الكتاب من مسألة إبراهيم و إسماعيل مسروق من كلام جهلة المبشرين كصاحب مقالة في الإسلام، و ما ذكر عن الشعر الجاهلي مسروق من متعصّبة المستشرقين لمرجليوث، فالفكرة على سخافتها ليست له في الموضعين. \" ا هـ.

و تابعت المجلة تطوّرات قضية طه حسين في المحاكم المصرية، و محاضر التحقيق و الاستجواب، و ما صدر بحقه من أحكام.

و إلى جانب الرد على طه حسين تصدّت المجلّة إلى افتراءات و هجمات دعاة التغريب في مصر، أمثال: أحمد لطفي السيد، و سلامة موسى، و توفيق الحكيم، و حسين فوزي، و ميشيل عفلق، و محمود عزمي، و إسماعيل أحمد أدهم، و غيرهم.

و مما يجب أن يُذكر في هذا المقام أن مجلة الفتح قد أحرزت قصب السبق في كشف حقيقة الحركة الماسونية في وقت كان الغموض يلفّها و يسدل حولها ستاراً كثيفاً من التعتيم و التزييف، إذ تقول المجلة: \" إن جل نبغاء المسلمين المستورين كانوا يدينون بالماسونية أكثر مما يتظاهرون بالإسلام، و الماسونية بُنيت قواعدها على صرح سليمان لأنها ظاهراً إنسانية و باطناً صهيونية محضة، و الدليل على ذلك أنها اليوم لم تتظاهر بعاطفة نحو ضحايا اليهود، و إنما تظهر الجمود و تعمل سرّاً لقمع التعصّب الإسلامي ابتغاء حماية اليهود، فكان المسلمون يخافون من كلمة التخويف (التعصب الإسلامي) التي كان يلقيها الأوروبيون لإرهاب العالم فلذلك اجتنبوا كل سعي شريف إرضاء للأجانب \" ا هـ.

 

المجلة و الفرق الضالة المنتسبة للإسلام:

لقد اضطـلعت المجلة منذ أعدادها الأولى في الردّ على الفرق الباطنية المنتسبة للإسلام، و كشف النقاب عن جذورها الفكرية و العقائدية، تقول المجلة في مجلدها الأول: \" هذه النحلة من ولائد الباطنية تغذّت من ديانات و آراء فلسفية و نزعات سياسية، ثم اخترعت لنفسها صورة من الباطل و خرجت تزعم أنها وحي سماوي، تقوم دعوة الباطنية على إبطال الشريعة الإسلامية، أصلها طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام بتأويل الشريعة على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم، و قالوا لا سبيل إلى دفع المسلمين بالسيف لغلبتهم و استيلائهم على الممالك و لكننا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا و يستدرج الضعفاء منهم، فإن ذلك يوجب اختلافهم و اضطراب كلمتهم \". ا هـ.

و ركّزت المجلة في هذا السياق على طائفة القاديانية الخبيثة التي انتشرت في القارة الهندية و بدأت تغزو العالم الإسلامي، فقالت المجلة: \" ادّعى ميرزا غلام أحمد النبوة و أنه هو المسيح الموعود، و بعد أن ادعى النبوة و أنه أوحي إليه من الله - تعالى -بدأ يدعو الناس لاتباعه، فلم يعدم أنصاراً بسبب الجهل من جهة و بفضل أولياء أمره و أمر تابعيه من جهة ثانية، و قد تمكن من إيجاد جماعة سماها \" الأحمدية \" يقولون باستمرار النبوة غير التشريعية، و بعدم انقطاع الوحي \". ا هـ.

و كتب الأستاذ: مسعود الندوي \" - رحمه الله - من لكنو بالهند مقالات أوضح فيها الفرق بين الأحمدية و القاديانية، و خطورة كلٍ, منهما على الإسلام.

و كذلك حذّرت من خطر فرقة التيجانية التي تتظاهر بالتصوّف و الزهد، و نبّهت إلى خطورة انتشارها في بلدان المغرب العربي، لكونها تمنح الولاء للاستعمار الفرنسي، و توطّد أركانه في تلك البلاد، إذ تقول: \" إن صاحب السجادة الكبرى ألقى خطاباً بين يدي الكونترول سيكلوني الفرنسي، تحدّث فيها عن الخدمات الجليلة التي قامت بها الطائفة التيجانية لفرنسا في توطيد الاستعمار الفرنسي و في سبيل تسهي مهمة الاحتلال على الفرنسيين، و في إشارات التعقّل التي كانت تسبّبها هذه الطريقة الصوفية لمريديها \" اهـ.

 

مجلة الفتح و قضايا التربية و التعليم:

كان من الطبيعي أن تهتم مجلة الفتح بقضية التربية و التعليم، و أن توليها ما تستحقّه من اهتمام، لا سيما و قد أدرك الغيورون في مصر خطر البرنامج الدنلوبي الذي زرعته بريطانيا في قلب وزارة التعليم المصرية، فقام \" دنلوب \" الخبير الإنجليزي بصياغة المناهج التربوية وفق الرؤية الغربية التي تتوافق مع سياسات بريطانيا تحت حجة تطوير المناهج، فقالت المجلة محذرةً من خطورة هذا البرنامج على النشء في مصر: \" إن الطريقة الدنلوبية علّمت شباب مصر أن العروبة و الإسلام شيء أجنبي طرأ على مصر و احتلّتها كاحتلال الفرس و البطالسة و الرومان و الانجليز، مع أن العروبة و الإسلام هما روح مصر و كيان مصر، بل هما مصر منذ نحو أربعة و عشرين قرناً إلى الآن \"، ثم تقول: \" إن التعليم الدانلوبي في المدارس أهمل آداب الإسلام و تاريخ الإسلام و أمجاد الإسلام فخرج لنا أبناء محرومين من سلاح الفضائل الإسلامية، و في التعليم يجب أن نبني في الشباب المصري الاعتماد على النفس في حياته الاستقلالية و الاقتصادية، و الإعزاز بتاريخه القريب الذي تكوّنت به قوميّته الحاضرة منذ أربعة عشر قرناً \". ا هـ.

و كشفت المجلة النقاب عن الدور التخريبي الذي تلعبه الجامعة الأمريكية في القاهرة في أكثر من عدد، من ذلك ما قام به أحد الطلبة فيها من كشف للمراجع التي التي يرشد أستذتها الطلاب إلى قراءتها، و من بينها كتاب خبيث مليء بالطعن و التطاول على مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -. نهاية المجلة:

استمرت مجلة الفتح في مسيرتها الميمونة حتى عام 1366 هـ، الموافق 1948 م، و كان سبب توقّفها هو موجة التضييق على العمل الإسلامي التي سادت مصر بعد هزيمة 1948 أمام اليهود، فنال مجلة الفتح ما نال غيرها من الأذى و الإغلاق و المصادرة، و جفّ مدادها بعد اثنين و عشرين عاماً من الجهاد الثقافي المتميّز الذي لا نجد وصفاً له أفضل و أصدق من وصف الأستاذ \" مصطفى السباعي \" - رحمه الله -، إذ قال: \" و ما كنا نتصل بالفتح حتى بدأنا نعرف واجبنا في الحياة كشبّان مسلمين، و أخذنا ندرك خطر ما يبيته الاستعمار من وسائل الكيد للمسلمين، و تأجّجت في أفئدتنا نار الحمية لدين الله، و النقمة على أعدائه، و شعرنا بأن الفتح هو همزة الوصل بيننا و بين أقطار الإسلام \". ا هـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply