بسم الله الرحمن الرحيم
ليس هناك أبلغ من الخطباء والشعراء إلا «التاريخ» لأن كلمة الشاعر والخطيب تختلف قيمة ومصداقية - باختلاف اللغات، واختلاف الفكر والثقافة والمشاعر عند المبدع والمتلقي. أما كلمة التاريخ فواحدة، وواقعية، وحاسمة» لأنها تقدم الدليل الثابت، والبرهان الذي لا ستطيع منصف أن ينكره. وهذه هي بلاغة الحال التي تتفوق على بلاغة المقال. وتأسيسًا على هذا الحكم نقول: إن حضارة الغرب حضارة عدوانية وحشية، نفعية، تقيم بناءها ومصالحها على حساب استنزاف الأمم، وتخريب الدول، وتدمير الشعوب: أوطانًا، وعقائداً، وأفكارًا، وثقافات.
حضارة إنسانية أصيلة:
وعلى النقيض عاشت الحضارة الإسلامية..حضارة إنسانية تؤدي رسالة البناء والتعمير والتنوير..وهذا الحكم على الحضارتين لا تعصب فيه، ولا انحياز، ولا إسراف، ولا شطط إنه حكم التاريخ ببلاغة واقعية حاسمة فائقة.. لا تعرف التزييف والتزوير.
وما بالك بدين يجعل من أساسيات «دستور الحرب» الانتصار للقيم الإنسانية، والتحلي بأخلاق الفروسية» في صورتها المثلى، فيحرم على الجندي المسلم المقاتل: أن يخون، أو يغدر، أو يغل (ينهب)، أو يمثل بالجثث، أو يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، أو الرهبان المنقطعين للعبادة، أو البهائم والحيوانات، ويحرم عليه التخريب بقطع النخل والشجر، وحرق البيوت والمنازل والمحلات، وعليه أن يطيع الله في السر والعلن. والسراء والضراء.
إنها توجيهات النبي -صلي الله عليه وسلم- وخلفائه للقادة والجيوش المسيرة لقتال أعداء الإسلام والأمة. وقد أخذ المسلمون أنفسهم بها في حروبهم، وفتوحاتهم، وتعاملهم مع الآخرين. بينما عاش الغرب على العدوان الذي لم يتوقف على مدار التاريخ مذابح وحشية..ونهب.. وتخريب والأمثلة الدالة على صدق هذا الحكم أكثر من أن تحصى، ونكتفي منها بمثال واحد في هذا المقام. وهو ما ارتكبه الصليبيون من جرائم عندما سقطت القدس في أيديهم في أواخر شعبان من سنة 492هـ. يقول ابن الأثير في كتابه «الكامل»: «... وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعًا، يقتلون فيه المسلمين، وقتلوا في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفًا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبّادهم، وزهَّادهم ممن فارق الأوطان، وجاور بذلك الموضع الشريف.. وأخذوا من عند الصخرة نيًّفا وأربعين قنديلاً من الفضة، وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنورًا من فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي، وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً، ومن الذهب نيّفا وعشرين قنديلاً، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء... \".
ومن أغرب ما ذكره ابن الأثير أن القسيسين من الصليبيين أخذوا يقتطعون قطعًا من صخرة الأقصى «ويبيعونها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة، يشترون بوزنها ذهبًا رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل بلاده باليسير منها بنى له كنيسة، ويجعل في مذبحها... \" فما قام به الصليبيون يمثل عدوانًا وحشيًا دمويًا سافرًا، ولم يكن حرب مواجهة بين جيشين، لقد قتلوا سبعين ألف مسلم داخل المسجد منهم خيرة الأئمة والعلماء، وغرباء جاءوا من بلادهم لتلقي العلم والبركة، ونهبوا محتويات المسجد ودور العبادة والمدارس، وأموال الناس، واقتطعوا مساحات واسعة من حرم الأقصى، وبنوا فيها مساكن ومخازن وراحات.
الفتح العظيم
وبعد هذه المأساة بواحد وتسعين عامًا هزم صلاح الدين الأيوبي جيوش الصليبيين في حطين هزيمة نكراء، وفرّ عشرات الآلاف منهم إلى القدس حتى اجتمع منهم داخل أسوارها قرابة ستين ألفًا، وعقدوا لواء القيادة لفارسهم «باليان ده إيبالين»، وهو من الذين فروا من حطين، وأمده البطريرك الصليبي في القدس بما تحتاجه الحرب، وبما يرضيه ويثريه، حتى لقد جمع له سبائك الذهب والفضة، وزينة الكنائس، ولم يستثن من ذلك ما زينت به الكنائس من ذهب وفضة، وجواهر.
وفي سنة 583هـ - بعد انتصاره المبين في حطين - زحف صلاح الدين إلى بيت المقدس، وحاصرها، ونصب «المجانيق» (قاذفات الصخور) خارجها.. وبدأ النقّابون ينقبون أسوارها (أي يفتحون ثغرات في الأسوار بالمعاول)، فعلا صراخ الرجال وبكاء النساء والأطفال من الصليبيين داخل المدينة، وألقى كثير من الرجال السلاح خوفًا ورهبة. فاتفق رأيهم على طلب الأمان من صلاح الدين، وتسليم بيت المقدس، واستشار صلاح الدين أصحابه، فأجمعوا على إجابتهم للأمان، وعقدت اتفاقية تسليم المدينة يوم الجمعة 27 من رجب 583هـ. إنسانية الفاتحين000
وظهرت إنسانية صلاح الدين في التعامل مع الصليبيين في مظاهر وسلوكيات متعددة من أهمها:
-1- أعطى صلاح الدين للصليبيين مهلة طويلة للخروج من بيت المقدس مدتها أربعون يومًا، ولهم الحق أن يحملوا معهم ما يشاءون من أموالهم وأملاكهم (عدا السلاح والخيل). وسمح لهم أن يبيعوا ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم، وذخائرهم، وأموالهم، وعقاراتهم.
-2- على كل صليبي يغادر بيت المقدس أن يدفع مبلغًا زهيدًا قدره عشرة دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، وديناران للطفل.
-3- أمّن نساء ملوك الفرنجة وأمراءهم، وسمح لهن بالخروج، ومعهن من الخدم والحشم، والعبيد، والجواري، والأموال، والجواهر النفيسة الكثير.. والكثير.
-4- أطلق ملكة القدس، ومعها خدمها، وحشمها، وأموالها، وكان زوجها يحكم نيابة عنها، وأسره صلاح الدين، وحبسه بقلعة نابلس، فاستأذنت صلاح الدين في المسير إلى زوجها هناك، فأذن لها، وأقامت عنده.
-5- كان صلاح الدين قد قتل «أرناط» (رينو دي شاتيون) بيده بعد أسره، لأنه خان الميثاق الذي عقده معه، وقام بقتل أسرى المسلمين، وهدد بالزحف إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم-، ونبش قبره. فأتته زوجته، فشفعت في ولد لها مأسور، فوافق صلاح الدين على إطلاقه، بشرط أن يسلم له الصليبيون قلعة «الكرك»، فسارت إلى الكرك، ومعها أموالها، وعبيدها، وحشمها. ولكن الفرنجة رفضوا طلبها.
- 6- سمح صلاح الدين بخروج البطرك الأكبر، ومعه من الأموال والمتاع ما يصعب وصفه وإحصاؤه. وأشار عليه بعض قواده أن يأخذ ما معه ليقوًّي به المسلمين، فرفض، وقال «لا أغدر به أبدا». ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير، كأي واحد من عامة الصليبيين.
-7- وخوفًا من قُطّاع الطرق على سلامة المغادرين، أرسل صلاح الدين معهم قوة من جيش المسلمين تحميهم إلى أن يصلوا إلي مدينة صور. وللأسف خانوا وغدروا، وانضموا إلى قوات الصليبيين بها، وقاتلوا معهم جيش صلاح الذي حاصر المدينة بعد ذلك وعجز عن إسقاطها.
-8- أما النصارى من أهل القدس فسمح لهم صلاح الدين بالبقاء في المدينة، ودفع الجزية.
التطهير...والتعمير
وبعد هذا الخروج الكبير باشر صلاح الدين بنفسه إعادة المدينة المقدسة إلى طهرها، ونقائها، وعمارها، فأمر - كما يقول ابن الأثير - «بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس» وأزال المساكن والمخازن والمداحات التي بناها الفرنجة غربي الأقصى، وعلى مساحات من حرمه. ولما كان الجمعة الأخرى (4 من شعبان 583) صلى فيه المسلمون الجمعة، ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة الصخرة.. ثم رتب فيه خطيبًا وإمامًا برسم الصلوات الخمس، وأمر بإحضار المنبر الذي كان نور الدين محمود قد أمر بصنعه من عشرين عامًا للمسجد، ومات دون أن يتحقق أمله في نقله إليه. وأمر ببذل أقصي الجهود في ترصيف المسجد، وتحسينه، وتجميله وعمارته، واستخدم في ذلك الرخام الفاخر، وأظهر الصخرة (وكان الفرنجة قد غطوها بالرخام)، وأزال من فوقها الصليب الذهبي الضخم، ووضع هلالا هائلا مكانه. وأقام ببيت المقدس إلى الخامس والعشرين من شعبان، يرتب أمور البلد وأحواله، وأمر ببناء الرّبط والمدارس قبل أن يغادر البلدة المقدسة لمواصلة الجهاد، وتحرير بقية المدن والقرى التي احتلها الصليبيون من عشرات السنين. إنها كلمة التاريخ....
هذه كانت كلمة التاريخ وبيانه البليغ الواقعي الحاسمº لأنه لا يشوبه التزوير والتزييف. وليرجع القارئ إلى صورة القدس تحت وطأة العدوان الصليبي، وصورة القدس بعد أن استعادها المسلمون ليتبين الفوارق الهائلة بين حضارة قامت على التخريب والتدمير، وحضارة عاشت للتعمير والتنوير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد