بسم الله الرحمن الرحيم
نقلت الروايات التاريخية أنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو الذي اختار الهجرة مبتدأ للتاريخ الإسلامي، والمتأمل بهذه الواقعة ترد على خاطره عدة أسئلة منها: لماذا كان عمر بن الخطاب هو الذي اختار بداية التاريخ الإسلامي؟ ولماذا لم يعتمد المسلمون التواريخ التي كانت سائدة في محيطهم الثقافي؟ وما الذي يعنيه هذا الاختيار؟
أما السؤال الأول فإنه ليس ذلك بعيداً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه- لأنه المؤسس الأول لقواعد الحكم الإسلامي في مختلف المجالات، فقد تمت الفتوحات الكبرى في عهده وأنشأ الدواوين، ونظم القضاء، وأحكم نظام الشورى الخ...، لذلك ليس بعيداً على رجل مثله أن يفكر في وضع بداية متميزة للتاريخ الإسلاميº لأنّ هذه الخطوة تكون استكمالاً للدولة التي وضع عمر بن الخطاب قواعد بنيانها، لكن ليس معنى هذا أنّ عمر بن الخطاب هو الذي انفرد بمثل هذا القرار، ولابدّ أنه خضع للمشاورة مع الصحابة الآخرين ككل القرارات الأخرى التي أتخذها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، والتي أخضعها للحوار المفتوح والمشاورة مع أهل الرأي من الصحابة - رضي الله عنهم -، كما حدث في عدم توزيع أرض سواد العراق على المقاتلين المسلمين، فكانت الحصيلة اعتماد الهجرة مبتدأ للتاريخ الإسلامي، وليس شيئاً غير الهجرة.
أما السؤال الثاني فإنّ المسلمين لم يقلّدوا الآخرين في إتباع تاريخ من تواريخهم وذلك لامتلاء ذواتهم بشخصيتهم الحضارية المتميزة، وقد ساهم في تكوين ذلك الامتلاء ثلاثة أمور:
الأول: الإيمان بالرسالة المنوطة بهم المتمثلة في قوله - سبحانه وتعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً) (سورة البقرة: من الآية 143) وفي قوله - سبحانه وتعالى-: (كنتم خيرَ أمةٍ, أخرجَت للناسِ تأمرون بالمعروفِ وتَنهَونَ عن المنكرِ وتؤمنونَ باللهِ) (آل عمران، 110)، والتي عبّر عنها ربعيّ بن عامر - رضي الله عنه - عند مواجهته لرستم قائد الفرس في قوله: \"جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام\".
الثاني: الاعتقاد بأحقية الدين الإسلامي وبأنه آخر الأديان وأكملها، وبأنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - سيد الرسل وخاتمهم، وبأنّ القرآن الكريم معجزة الله الأخيرة للبشر.
الثالث: تَمَيٌّزُهم في عقائدهم وعبادتهم وأذانهم وصلاتهم وشعائرهم الخ...، وكان هذا التميّز ثمرة من ثمرات توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومقتضيات الصراط المستقيم الذي يوجب مخالفة أصحاب الجحيم.
لقد ولّدت الأمور السابقة غنى في نفوس المسلمين، وثقة في المنهج، وتميزاً في السلوك، وإحساساً بالدور التاريخي الجديد الذي يجب أن يكون من مقتضاه تأريخاً متميزاً.
أما السؤال الثالث عن معاني اختيار الهجرة كمبتدأ للتاريخ الإسلامي فتفرض عدة أسئلة نفسها على الباحث في هذا المجال أولها: لماذا لم يختر الصحابة مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - منطلقاً للتاريخ الإسلامي؟ ومن المعلوم أنّ مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عام الفيل، وهو العام الذي قصد فيه أبرهة الحبشي الكعبة ليهدمها وجلب معه الفيلة في حملته تلك، ولكن الله حفظ الكعبة، وحدثت المعجزة بأن سلط عليهم طيراً أبابيل فأهلكتهم، وتحدثت عن ذلك (سورة الفيل) في القرآن الكريم، ومما يقوّي هذا الاتجاه بأنّ دولة الروم كانت قد اتخذت ولادة المسيح - عليه السلام - منطلقاً لتأريخها، فلماذا لم يجعل المسلمون من مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - منطلقاً لتأريخهم الخاص بهم، مع أنّ مولده ليس مولداً نكرة بل كان مولداً مترافقاً مع أحداث بارزة ومشهورة في كل الجزيرة العربية عززته آيات قرآنية؟ أرجّح أنّ ذلك ثمرة لتربيتهم القائمة على تقديم المنهج على الشخص وتقديم الرسالة على الرسول، وقد رسخ الإسلام ذلك، ويتضح هذا بعدة وقائع منها: تسمية دينهم الإسلام وليس \"الدين المحمدي\" أو \"المحمدية\"، وتسميتهم المسلمين وليس \"المحمديين\"، وتقديم قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - على فعله في أصول الفقه في حال تعارضهماº لأنّ القول يعني الرسالة والفعل يعني الرسول، ومما ينمي هذا الاتجاه تأكيد القرآن الكريم على بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عدة آيات منها قوله - سبحانه وتعالى -: (قُل إنما أنا بشرٌ مِثلُكُم يوحَى إلَيَّ أَنَّما إلَهُكُم إلَهٌ واحدٌ فَمَن كان يرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليعمَل عملاً صالِحاً ولا يُشرِك بعبادةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف، 110)، وإبراز بعض أفعاله التي خالفت الأَولى من مثل اتخاذه الأسرى بعد غزوة بدر حيث قال - سبحانه وتعالى -: (ما كان لنبيٍ, أن يكونَ لهُ أسرَى حتى يُثخِنَ في الأرض ِتُريدونَ عَرَضَ الدنيا واللهُ يُريدُ الآخرةَ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ) (الأنفال، 67)، ومن مثل إعراضه عن عبد الله بن أم مكتوم طمعاً في إسلام وجهاء قريش فقال - سبحانه وتعالى -: (عَبَسَ وتَوَلَّى. أن جاءَهُ الأعمى. وما يُدريكَ لعلّهُ يزَّكَّى. أو يذَّكَّرُ فتنفَعَهُ الذّكرى. أمّا مَنِ استَغنى. فأنتَ لهُ تَصَدَّى. وما عليكَ ألاَّ يَزَّكَّى) (عبس، 1-7).
إنّ تقديم الرسالة على الرسول والمنهج على الشخص لا يتعارض بحال من الأحوال مع تعلّق المسلمين بالرسول- صلى الله عليه وسلم - وحبّهم إياه أكثر من أولادهم وذواتهم، واتخاذه قدوة لهم، ولا يتعارض مع اعتقادهم أنه سيد ولد آدم، وأنه خير الرسل وإمامهم، وأنه الرحمة المهداة إلى البشرية كما قال - سبحانه وتعالى -: (وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالَمينَ) (الأنبياء، 107)، وأنه خير العابدين على وجه الأرض. لا تعارض بين كل ذلك التعظيم والتوقير والتقدير للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين تقديم الرسالة على شخصهº لأنّ الإسلام هو الذي وجههم إلى تلك الأفعال، وهو الذي رسّخ في حسّهم ذلك التقديم.
إنّ تقديم الرسالة على الرسول وتقديم المنهج على الشخص كانت نقلة نوعية في تاريخ البشريةº لأنّ معظم الضلال الذي وقعت فيه الأمم السابقة على الإسلام كان من تعظيمهم الأشخاص وتقديمهم على المنهج والوقوع بالتالي في تأليههم وعبادتهم بعد ذلك.
إنّ اختيار الصحابة للهجرة وليس ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثمرة التربية السابقة التي تقوم على تقديم المنهج على الشخص وتقديم الرسالة على الرسولº فالهجرة كانت جزءاً من حركة الرسالة على الأرض، وكانت منعطفاً مهماً في حياة المسلمين، وكانت نقلة نوعية في المجتمع الإسلاميº إذ نقلتهم من الاستضعاف إلى التمكين، ومن الدعوة إلى الدولة، ومن الجماعة إلى الأمة، لذلك اختيرت لتكون مبتدأً لتأريخهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد