بسم الله الرحمن الرحيم
14 رجب 680هـ:
سطع نجم دولة المماليك في سماء البشرية عامة والأمة المسلمة خاصة بعد أن نجحوا في وقف الانسياح الوحشي للتتار على أرجاء المعمورة كلها، وبرز الأبطال قطز ومن بعده بيبرس، وظل نجم الدولة في علو حتى أصابته السنن، ووقف الخلاف والشقاق بين أمراء الدولة بعد وفاة «بيبرس» حيث تولى ابنه «السعيد» مكانه، ولم يكن يصلح للملك فعزلوه وجعلوا مكانه أخاه الصغير «سلامش» ابن السابعة على أن يكون ولي أمر الأمير «قلاوون الصالحي» الذي ما لبث أن خلع «سلامش»، وتولى هو سلطنة المماليك وتلقب بالملك المنصور، فلم يعجب ذلك الأمير «سنقر الأشقر» وكان من المقربين لبيبرس وفي نفس الوقت أميراً على الشام، فأعلن نفسه سلطاناً على الشام وتلقب بالملك الكامل، وجرت خطوب كثيرة، واقتتل المسلمون فيما بينهم، ونسوا عدوهم الأصلي الرابض على الطرف الآخر من نهر الفرات «التتار».
ولما دخلت سنة 679هـ كانت مهزلة تفرق المسلمين على أشدها «فقلاوون الصالحي» الحاكم على مصر وبعض بلاد الشام، «وسنقر الأشقر» الحاكم على دمشق وأعمالها، و«مسعود بن الظاهر» الحاكم على الكرك، و«ناصر الدين محمد بن تقي الدين» الحاكم على حماة، و«يوسف بن عمر» الحاكم على اليمن، و«نجم الدين بن أبي نمي الحسني» الحاكم على مكة، و«عز الدين حماز الحسيني» الحاكم على المدينة، أما العدو اللدود التتار فيحكمون العراق والجزيرة، وخراسان وأذربيجان، والموصل وأربل، وديار بكر تحت زعامة الخان الأكبر للتتار «أبقا بن هولاكو»، وقائد جيوشه الشرير الحاقد «منكوتمر بن هولاكو» أخوه الأصغر.
كانت النتيجة الحتمية لهذا التفريق والتشرذم أن قام التتار بالاستعداد لاكتساح بلاد الشام ومصر، والثأر لهزيمة هولاكو الساحقة في «عين جالوت»، وكان «أبقا بن هولاكو» لا يريد هذه الحرب ويكرهها ولكن أخاه «منكوتمر» أجبره على ذلك، فقد كان شديد الحقد والكراهية للمسلمين، لا يطيق أن يسمع كلمة مسلم، ولا عجب فهو ابن هولاكو الوثني الطاغية، وظفر خاتون الصليبية الشهيرة.
زحف التتار على الشام بأعداد كبيرة فشعر المسلمون بحرج موقفهم إن هم ظلوا متفرقين مختلفين، فأرسل «قلاوون الصالحي» إلى «سنقر الأشقر» يقول له: «إن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين، والمصلحة أن نتفق عليهم، لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم»، فوافق سنقر بقلب المسلم الواعي الذي استرد وعيه بعد أن مالت به الدنيا قليلاً وقال له: «السمع والطاعة واليد الواحدة على عدو المسلمين»، واستعاد المسلمون وعيهم، واستعدوا للقاء التتار، الذين قرروا العودة إلى العراق بعدما علموا أن المسلمين قد استعدوا لقتالهم، ولكنهم انسحبوا وهم يخططون للعودة مرة أخرى عندما تتاح الفرصة.
بالفعل عندما استشعر التتار هدوء الجبهة الشامية، واطمأن الناس عدة شهورº أعدوا جيشاً كبيراً يقدر بمئة ألف ويقوده «منكوتمر» بنفسه، وعبروا الفرات باتجاه الشام، ووصلت أخبار الهجوم التتاري الجديد للسلطان «المنصور قلاوون» فكتب إلى ملوك المسلمين في كل مكان يستدعيهم للقاء العدو، وعظم الخطب على المسلمين، وقنت الخطباء والأئمة في الجوامع، والتتار يقبلون شيئاً فشيئاً حتى وصلوا إلى مدينة «حماة» فأبادوها وأهلها بالكلية كما هي عادتهم الوحشية.
جهَّز السلطان «المنصور» الجيوش، وعسكر في مدينة «حمص»، ومجمل الجيوش خمسون ألفاً، فأقبل الجيش التتاري العرمرم، وفي يوم الخميس 14 رجب سنة 680هـ ومع طلوع النهار اصطدم التتار بالمسلمين مستغلين كثرتهم العددية، وسمعتهم المدوية في القتال، فاهتز المسلمون بشدة لصدمتهم، واستظهر التتار على المسلمين في أول النهار، وكسروا ميسرة الجيش الإسلامي، وفر كثير من المسلمين من المعركة، فلما رأى السلطان «قلاوون» ذلك برز للناس وحفز الجند على القتال، وثبت هو ثباتاً عظيماً في طائفة قليلة من جنوده، وكان لهذا الثبات أثر عظيم في عودة الفارين، وثبات الخائفين، فحميت النفوس، وقويت العزائم، وتصاول الأبطال.
حدث تغيير كبير في سير المعركة عندما جاء أمير العرب «عيسى بن مهنا» بكتيبة من فرسان الصحراء، وصدم الجيش التتاري من ناحية العرض، فاضطرب الجيش التتاري لصدمته بشدة، وانقلبت دفة القتال لصالح المسلمين، وفر كثير من التتار، وانهزموا من القتال، فأتبعهم المسلمون يقتلون ولا يأسرون أحداً، وكانت هزيمة مدوية للتتار أعاد للأذهان ذكريات «عين جالوت»، وظل التتار يفرون حتى وصلوا إلى نهر الفرات فغرق أكثرهم فيه، ونزل إليهم أهل مدينة «البيرة» فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وسرايا الجيش الإسلامي خلفهم للتأكد من خروجهم من البلاد، وقد أصيب منكوتمر في المعركة إصابة شديدة، أما «أبقا» خان التتار الأكبر فقد مات غماً وهماً بسبب هذه الهزيمة لأن الحرب كانت على غير رأيه وهواه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد