بسم الله الرحمن الرحيم
كانت فاجعة (التتار)، وهمجية (المغول) من أعظم ما بلي به المسلمون، ولعل الذين عاشوا محنتها كانوا يظنون فيها نهاية للإسلام والمسلمين.
وعلى الرغم من هذه المحنة وما سبقها من محن أو تلاها، فقد بقي الإسلام كالطود الشامخº تحطمت على صخراته الصماء مكائد الماكرين، وظهرت معجزة الإسلام حين عاد بعثه من جديد في الأجيال اللاحقة من أبناء المسلمين، بل لقد دخل في الإسلام طائفة من هؤلاء بعد أن كانوا من الرعاع المتوحشين.
لقد أحجم في البداية العلماء المعاصرون عن الكتابة عن محنة التتار لهول الفاجعة، فبقي (ابن الأثير) (ت 630هـ) عدة سنين معرضا عن ذكرها استعظاما لها، وهو القائل: \"فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا[1]
ويقول أيضا: فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله - سبحانه وتعالى - آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها[2].
وهي عنده أعظم من فـتنة الدجال[3].
بل لقد أقسم أن من سيجيءُ بعدها سينكرها وحق له ذلك: وتالله لا شك أن من يجئ بعدنا إذا بعُد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطرة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، ولم ينل المسلمين أذى وشدة منذ جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن [4]
هذا الوصف كله من ابن الأثير، وهو لم يشهد فاجعتهم الكبرى بسقوط بغداد سنة (656هـ)، وقتل الخليفة العباسي وسفك دماء المسلمين، وهي فاجعة تضاهي ما سبقها بل تـزيد، ويمكن القول إنها فتن يرقق بعضها بعضها وسيتضح حين الحديث عنها حجم مآسيها وضخامة أحداثها.
كما أن ابن الأثير لم يشهد كذلك أحداث التتر في نهاية القرن السابق الهجري (699هـ)، حين عبروا الفرات إلى بلاد الشام وما حولها، وما حصل للمسلمين في هذه الفترة من البلاء والمحن، حتى أذن الله بزوال هذه المحنة، وكشف الله عن المسلمين هذه الغمة، وهي فتنة بليت فيها السرائر، وانقسم الناس فيها فرقا شتى، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية وهو شاهد عيان في وصف الحدث وهوله، وموقف الناس بإزائه فقال: \"فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يُجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يُغيث اللهفان، ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفَّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيـد، كما يتفرقـون كذلك في اليوم الموعود، وفـر الرجل فيها من أخيـه وأمـه وأبيـه، وإذ كان لك امـرئ منهم شأن يغنيه.
وكـان من الناس من أقصـى همته النجـاة بنفسهº لا يلوى على ماله ولا ولده ولا عرضه، كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع، وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن الهرج من الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل، وذم سادته وكبرائه من أطاعهم فأضلوه السبيلا.
كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون، ووطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي رآها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامةº حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام.
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور، وآخر قد غره بالله الغرور، وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيماº((لِيَجزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاء أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)) (الأحزاب: 24)[5].
كما كان دقيقا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد الشام، فقال: وهكذا هذا العام [6].
جاء العدو من ناحيتي علو الشام، وهو شمال الفرات، وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغاً عظيما، وبلغت القلوب الحناجر، لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو وتوجه إلى دمشق، وظن الناس بالله الطنونا، هذا يظن أنه لا يقف أمامهم أحد من جند الشام حتى يصطلموا أهل الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف أمامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها. وهذا إذا أحسن ظنه قال: إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العامº وهذا ظن خيارهم، وهذا يظن أن من أخبره به أهل الآثار النبويةº وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة، وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحابº ليس له عقل يتفهم، ولا لسان يتكلم، وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ الروية.
فلذلك استولت الحيرة على من كان متسما بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء، ((هُنَالِكَ ابتُلِيَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالًا شَدِيدًا)) (الأحزاب: 11)[7].
أمـا المنافقون فلهم شأن آخر، ولهم موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا[8] وكانوا شيعاº فمنهم من قال: ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم فينبغي الدخول في دولة التتر، وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن وإما إلى مصر، وقال بعضهم: بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء كمـا قد استسلم لهم أهـل العراق والدخـول تحت حكمهم [9]
هذه الحادثة لهولها وشدتها، وكثرة أحداثها، وترابطها، لا يمكن أن نأتي عليها بجملتها أو نفصل القول في كل حدث من أحداثها، فذلك ميدانه الكتب المختصصة، ولكن البحث سيتجه إلى بيان العوامل الظاهرة أو الخفية في دخول التتر بلاد المسلمين، شاملا في ذلك أصل التتر ومعتقدهم، والبواعث الأولى لدخولهم، ونماذج للمآسي التي خلفوها في البلاد المسلمة، ومركزا الحديث أكثر في عوامل دخلوهم ((بغداد)) حاضرة العالم الإسلامي، والتي انتهت بقتل الخليفة وإسقاط الخلافة العباسية.
ولعل الدارسة تكشف عن أدوار خفية لا تكفي كتب التاريخ المتخصصة وحدها في كشف رموزها، وتفصيل مواقف أصحابها، وهذا يعني الاستفادة من كتب السير والتراجم، والكتب المعينة بالعقائد والأديان، أو الفرق والملل والنحل، فتلك حرية بكشف أدوار أصحاب العقائد، ولا سيما الرافضة، موضع التركيز في هذه الدارسة.
أولا: أصل التتر وعقيدتهم:
هذه الأمة (التترية) خرجوا من أراضيهم (بادية الصين) وراء بلاد تركستان [10]، وأصولهم تركية، بل هم من أكثر الترك عددا [11].
وأول ملوكهم (جنكز خان)، وهو سلطانهم الأول، وليس للتتر ذكر قبله، إنما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين، فقدموه عليهم، وأول مظهره كان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، هكذا ذكر الذهبي [12].
أما ابن الأثير: فهو وإن لم يذكر التتر إلا في سنة 604هـ، فقد تحدث عن التتر الأولى وملكهم (كشكي خان)، وأن هؤلاء خرجوا من بلادهم حدود الصين قديما، ونزلوا بلاد تركستان، وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب [13].
وتحدث عن التتر الآخرون وملكهم (جنكز خان) النهرجي، وأنهم خرجوا على التتر الأولى، فانشغلوا بهم عن غيرهم [14].
ولم يغفل ذلك الذهبي، بل نقل في أحداث سنة 606هـ محاربة ملوكهم للخطا، وأن رئيسهم يدعى (كشلوخان)، حتى خرج عليه (جنكز خان)، فتحاربوا مدة وظفر جنكز خان، وانفرد ودانت له قبائل المغول [15]
فهل ذلك نوع من التضارب في منقولات الذهبي، أم أنه أراد بخروجهم على يد جنكيز خان أنه بداية سماع المسلمين بهم، أو قصد أنه أول ملوك التتر الأقوياء الذين كان لهم أثر في تاريخهم وتنظيم حياتهم، لا سيما وقد ذكر الذهبي أن (جنكيز خان) هو أول من وضع لهم (ياسة) أي شريعة- يتمسكون بها[16].
قصد التتر العالم من حولهم، ووقعت لهم مصافات وحروب، تفوقوا على غيرهم في الغالب منها، وكانوا يُرهبون عدوهم لشدتهم وشجاعتهم وكثرتهم، وقد جود الموفق البغدادي وصفهم، كما قال الذهبي حين قال: \"حديثهم حديث يأكل الأحاديث، وخبر ينسي التواريخ، ونازلة تطبق الأرضº هذه الأمة لغتها مشوبة بلغة الهند لمجاورتهم، عراض الوجوه، واسعو الصدور، خفاف الأعجاز، صغار الأطراف، إلى أن يقول: وهذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتمرجـي سكان، براري قاطع الصين ومشتاهم بأرغون [17].
أما عن عقيدة التتر وعوائدهم:
فيقول عنها ابن الأثير: \"وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئاº فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحا، بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه [18].
ويرى ابن تيمية أن التتر خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي - رضي الله عنه - [19].
وهو لا ينفي وجود من ينتسب إلى الإسلام من عسكرهم، ويثبت كذلك أن عندهم من الإسلام بعضه، ويفصل القول في معتقدهم وعوائدهم وقربهم، أو بعدهم من الإسلام، فيقول: \"هؤلاء القوم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين، وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام وهم جمهور العسكر، ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلي إلا قليل جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من غيره، وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه، لكن الذي عليه عامتهم، والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام، أو أكثرهاº فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه، وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله، وكل من خرج على دولتهم استحلوا قتله وإن كان من خيار المسلمين، ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك، وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات، لا من الصلاة ولا من الزكاة، ولا من الحج ولا غير ذلك، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله، بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى..[20]
----------------------------------------
[1] ابن الأثير: الكامل (12\\358).
[2] الكامل 12\\358.
[3] الكامل 12\\359.
[4] المصدر نفسه 12\\376، 375.
[5] انظر الفتاوى 28\\328، 327.
[6] يعني سنة تسع وتسعين وستمائة للهجرة. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28\\410.
[7] الفتاوى 28\\447، 446.
[8] في صفحات عدة قارن ابن تيمية بين حادثة التتر وموقف الناس منها وغزوة الأحزاب وموقف المؤمنين والمنافقين منها. انظر الفتاوى 28\\464، 440[9] انظر الفتاوى 28\\451، 450.
[10] سير أعلام النبلاء 22\\225.
[11] الكامل لابن الأثير 12\\359.
[12] سير أعلام النبلاء 22\\243 وذكر في موضع آخر أن أول ظهور التتر كان سنة 606هـ، السير 22\\225
[13] انظر: الكامل 12\\269، 270، 271، وسيأتي تفصيل شيء من ذلك.
[14] المصدر السابق 12\\271.
[15] السير 22\\225، 226، 227.
[16] السير: 22\\228.
[17] سير أعلام النبلاء 22\\227.
[18] الكامل 12\\360.
[19] الفتاوى 28\\503، 504.
[20] انظر: الفتاوى 28\\504، 505، ولمزيد التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع لما كتبه د. سعد الغامدي في كتابه: المغول بيئتهم الطبيعية وحياتهم الإجتماعية والدينية من ص 121 158.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد