بسم الله الرحمن الرحيم
ها قد قربت أيام الحج فعن ماذا أحدثكم؟ هل أحدثكم عن فضل الحج وأبرز أحكامه؟ أم أحدثكم عن حكمة مشروعيته وأظهر آثاره ودروسه؟ أم أذكركم بمسؤولية مئات الألوف من الحجيج وقد جاءوا من كل فج عميق من يتحمل مهمة التوجيه والتعليم وبيان العقيدة الصحيحة لهم؟
لن أحدثكم في هذا اليوم عن شيء من هذا بشكل مباشر؟ ولكنها رحلة سأرحلها في أعماق تاريخنا، فهل تقبلون الصحبة؟ صحبة علماء وأمراء، فماذا جرى بين العلماء والأمراء في أيام الحج وفي تلك البقاع المشرفة؟
ا- واستفتح بمن جمع إلى الخلافة علماً جماً، فأقول: ذهب أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- إلى مكة أيام خلافته فدخل مكة ضحوة، فأتى منزله وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره، فقيل: هذا ابنك، فنهض قائماً وعجل أبو بكر قبل أن ينيخ راحلته، فنزل عنها وهي قائمة، فجعل يقول: يا أبت لا تقم، ثم لاقاه فالتزمه، وقبل بين عيني أبي قحافة، وجعل الشيخ يبكي فرحاً بقدومه. وجاء والي مكة عتاب بن أسيد وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، فسلموا عليه وعلى أبيه، وجعل أبو بكر يبكي حين يذكرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال أبو قحافة: يا عتيق هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم. فقال أبو بكر- رضي الله عنه -: يا أبت، لا حول ولا قوة إلا بالله، طوقت عظيما من الأمر لا قوة لي به ولا يدان إلا بالله، ثم دخل فاغتسل وخرج وطاف بالبيت، ثم انصرف إلى منزله، فلما كان الظهر خرج فطاف في البيت، ثم جلس قريباً من دار الندوة فقال: \"هل من أحد يشتكي من ظلامة أو يطلب حقاً؟، فما أتاه أحد، وأثنى الناس على ولايته خيراً.
2- أما الفاروق - رضي الله عنه - فقد روى سعيد بن المسيب أن عمر لما أتي مكة أناخ بالأبطح، فكوم كومة من بطحاء، فطرح عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها ورفع يديه إلى السماء، وقال:(اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط). رحمك الله يا عمر.
عليك سلام من إمام وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما قدمه بالأمس يسبق قضيت أموراً ًثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق ورجع عمر من حجته هذه، فطعن ومات - رضي الله عنه -.
3- قد يقول قائل: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده، فأنى لنا أن نبلغ شأونهم أو نلحق بهم؟
ولن أقول لكم لقد كانوا بشراً وما كانوا ملائكة، ولكنه الإيمان حين يعمر القلوب.
وسأطوي السنين، وأنقلكم إلى الدولة العباسية، وإلى أحد خلفائها ممن شوه المنصرون، وأهل الخلاعة والمجون والروايات تاريخه. فكيف كان؟ وكيف كان علماء زمنه - في مكة المكرمة وقد قدم إليها حاجاً؟
روى أبو عمر الجرمي النحوي قال: حدثنا الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين هارون الرشيد فأتاني، فخرجت مسرعاً فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي لأتيتك. فقال: ويحك! قد حك في نفسي شيء فانظر لي رجلاً أسأله.
فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت الباب - أمير المؤمنين ووزيره يقرعان باب سفيان -.
فقال: من هذا؟
فقلت: أجب أمير المؤمنين.
فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي لأتيتك.
فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فحدثه ساعة، ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، فقال. اقض دينه. فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً.
انظر لي رجلاً أسأله. فقلت: ها هنا عبد الرزاق. (فذكر مثل ما جرى له مع ابن عيينة).
فقلت: ها هنا الفضيل بن عياض.
قال: امض بنا إليه.
فأتيناه فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية من القرآن يرددها.
قال: اقرع الباب.
فقال: من هذا؟
فقلت: أجب أمير المؤمنين.
فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟
فقلت: أما عليك طاعة؟
قال: فنزل، ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت. فدخلنا، فجعلنا نحول عليه بأيدينا. فسبقت كف هارون الرشيد قبلي إليه.
فقال: ! الفضيل: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله - عز وجل -.
قال الفضل بن الربيع: فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام من قلب نقي.
فقال له هارون الرشيد: خذ لما جئناك له رحمك الله.
فقال له الفضيل بن عياض: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاءً، وقد عددتها أنت وأصحابك نعمة. ثم ذكر ما أجابوا به عمر.
قال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت.
وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.
قال الفضيل: وإني أقول لك يا هارون: إني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا؟
فبكى هارون الرشيد بكاءً شديداً، فقلت له: أرفق بأمير المؤمنين. فقال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا.
ثم قال له هارون: زدني رحمك الله.
فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكى إليه، فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود للأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ العامل كتاب عمر، طوى البلاد حتى قدم على عمر. فقال: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله.
قال: فبكى هارون بكاء شديداً. ثم قال: زدني رحمك الله.
فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -! جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! أمرني على إمارة؟ فقال له: \"إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت ألا تكون أميراً فافعل \" (1). فبكى هارون بكاء شديداً.
فقال: زدني رحمك الله.
فقال له: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله - عز وجل - عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن [1]تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة) (2).
فبكى هارون الرشيد. وقال له: عليك دين؟
قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه بعد. فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي.
قال: إنما أعني من دين العباد؟
قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، قال الله - عز وجل -: ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ)) (الذاريات: 58).
فقال له: هذه ألف دينار خذها، فأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادتك.
فقال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك، ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده.
قال الفضل بن الربيع: فلما صرنا إلى الباب. قال هارون الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين.
فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا هذا! قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال، فتفرجنا به. فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه.
فلما سمع هارون هذا الكلام، قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل، خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه ولا يجيبه. فبينا نحن كذلك، إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله. فانصرفنا. [2]
هارون الرشيد الذي يبكي، هو الذي كان يحج ويغزو عاماً، وهو كتب إلى ملك الروم (نقفور) في أحد أجوبته على ظهر خطابه احتقاراً له:
\"من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم الجواب ما تراه لا ما تسمعه \". وسير إليه جيشاً عظيماً في الحال.
وهكذا كانوا كما وصفهم الله: ((أَذِلَّةٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ, عَلَى الكَافِرِينَ)).
4- ولما حج عبد الملك بن مروان، جلس حوله الناس، فأبصر عطاء بن أبي رباح فقام إليه عبد الملك، وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه، وقال له: يا أبا محمد حاجتك؟ قال يا أمير المؤمنين! اتق الله في حرم الله ورسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك ولا تغفل عنهم ولا تغلق عنهم بابك.
فقال له: أفعل، ثم نهض عطاء فقبض عليه عبد الملك فقال له: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك وقد قضيناها فما حاجتك؟
فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد.
5- ولما قدم أبو جعفر المنصور المدينة كان قاضيها محمد بن عمران الطلحي، وكان كاتب القاضي، عمر بن أبي بكر المدني، يقول كاتبه هذا:
\"فاستعدى الحاملون على أمير المؤمنين في شيء ذكروه، فأمرني القاضي أن أكتب كتابا إلى المنصور بالحضور معهم وإنصافهم فقلت: تعفيني من هذا فإنه يعرف خطي، فقال: اكتب فكتبت ثم ختمته، وقال: والله لا يمضي به غيرك، ! فمضيت إلى الربيع وجعلت أعتذر إليه، فقال: لا عليك، فدخل بالكتاب على الخليفة أبي جعفر. ثم خرج الربيع فقال للناس- وقد حضر وجوه أهل المدينة والأشراف وغيرهم-: إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام، ويقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا أعلمن أحداً قام إلي إذا خرجت أو بدأني بالسلام.
قال: وخرج والربيع وأنا خلفه وهو في إزار ورداء، فسلم على الناس، فما قام أحد، ثم مضى حتى بدأ بالقبر فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي وأبي بكر وعمر، ثم ألتفت إلى الربيع فقال: ويحك يا ربيع أخشى أن يراني ابن عمران فيدخل قلبه هيبة فيتحول عن مجلسه، وبالله إن فعل ذلك لا ولي لي ولاية أبداً.
قال: فلما رآه ابن عمران - وكان متكئاً، أطلق رداءه عن عاتقه، ثم اختبأ به ودعا بالخصوم وبالحمالين ثم دعى بأمير المؤمنين، ثم ادعى عليه القوم فقضى لهم عليه. فلما خرج المنصور ودخل الدار، قال للربيع: اذهب فإذا قام وخرج من عنده الخصوم فادعه. فقال: يا أمير المؤمنين! والله ما دعى بك إلا بعد أن فرغ من أمور الناس جميعاً. فدعاه، فلما دخل سلم فرد السلام، وقال: جزاك الله عن دينك وعن نبيك وعن خليفتك أحسن الجزاء. وأمر له بعشرة آلاف دينار!
----------------------------------------
1. هذا الحديث ذكره أبو نعيم في الحلية (8/ 107) ضمن سياق هذا الموقف لكن بغير إسناد وقد ثبت التحذير من الإمارة في غير ما حديث، من ذلك: ما رواه البخاري (7148)، والنسائى (7/ 162) و (8/ 225- 226)، وأحمد (476) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ولفظه: \"أنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة - يوم القيامة، فنعم الرضعة وبئست الفاطمة!.
2. مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، لابن الجوزي (2/ 153- 157).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد