((..... الاستخفاف بالحرم.. وبالحرمات.... ))....
أقبل إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر - عليهم السلام -، وهي ترضعه... حتى وضعها عند البيت عند شجرة عظيمة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء..
ثم قفى إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل، فقالت:
يا إبراهيم!، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولاشيء؟..
فقالت ذلك مرارا، وهو لا يلتفت إليها..
فقالت له: آلله أمرك بهذا؟..
قال: نعم..
قالت: إذن لا يضيعنا الله..
ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه، فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}.
بقيت هاجر مع ابنها ترضعه، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء، عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، ويتمرغ، ويضرب بنفسه الأرض، يعلو وينخفض كالذي ينازع الموت، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي:
تنظر هل ترى أحدا؟..
فلم تر أحدا..
فهطبت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي: رفعت طرف قميصها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، فنظرت:
هل ترى أحدا..
فلم تر أحدا؟..
ففعلت ذلك سبع مرات..
فلما أشرفت على المروة، سمعت صوتا، فقالت:
أغث إن كان عندك خير..
فإذا هي بالملك جبريل عند موضع زمزم، فنادها:
من أنت؟..
قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم..
قال: فإلى من وكلكما..
قالت: إلى الله..
قال: وكلكما إلى كاف.
فبحث جبريل بجناحه حتى ظهر الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحوضه وتحبس الماء، فقال جبريل:
دعيه فإنها رواء..
وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعد ما تغرف، ولو لم تغرف من الماء، ولو تركته لكانت زمزم عينا معينا، فجعلت تشرب من الماء، ويدر لبنها على صبيها، فقال لها الملك:
لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
فكانت هاجر كذلك، حتى مرت بهم رفقة من جرهم: قبيلة من بني قحطان، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا أسفل مكة، فرأوا طائرا يحوم على الماء، فقالوا:
إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء..
فأرسلوا رسولا، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا، وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا:
أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟..
قالت: نعم، ولكن لاحق لكم في الماء..
قالوا: نعم.
وهكذا كانت بطن مكة، ليس فيها ماء، وليس لأحد فيها قرار، حتى أظهر الله - تعالى - ماء زمزم، فعمرت مكة يومئذ.
فكانت جرهم تشرب من ماء زمزم، فمكثت بذلك ما شاء الله أن تمكث، فلما استخفت جرهم بالحرم، وتهاونت بحرمة البيت:
- فأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها سرا وعلانية..
- وظلموا من دخلها من غير أهلها..
- وارتكبوا مع ذلك أمورا عظاما، ونالوا ما لم يكونوا ينالون..
نضب ماء زمزم وانقطع، فلم يزل موضعه يدرس ويتقادم، وتمر عليه السيول عصراً بعد عصر، حتى خفي مكانه.
وكانت هذه عظة وعبرة، لعلهم يستكينوا لربهم ويتضرعوا إليه، ويتركوا الذنوب ومحاربة الله جهارا وعلانية لكنهم ما فهموا:
لماذا غار ماء زمزم واختفى؟..
وفسروا ذهابه بما شاءوا من تفسيرات، ونسوا أنها عقوبة من الله.
فعاقبهم الله بعقوبة أخرى:
فرق أمرهم، وشتت كلمتهم، وباعد بين قلوبهم، وألقى فيها العداوة والبغضاء والحسد، فتنازعوا أمرهم بينهم، واختلفوا، فضعفوا، وهانوا، وذهبت عزتهم، فذلوا، وكانوا قبل ذلك من أعز حي في العرب، وأكثرهم رجالا وأموالا وسلاحا.
فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له: مضاض بن عمرو، قام فيهم خطبيا، وكان رجلا صالحا، وهو أب لزوجة إسماعيل الثانية، التي ارتضاها له أبوه إبراهيم - عليهم السلام -، فوعظهم ونصحهم وقال:
يا قوم! أبقوا على أنفسكم، وراقبوا الله في حرمنه وأمنه، فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر هذه الأمم قبلكم، قوم هود وقوم صالح وشعيب، فلا تفعلوا، وتواصلوا، وتواصوا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، ولا تستخفوا بحرم الله - تعالى -وبيته الحرام، ولا يغرنكم ما أنتم فيه من الأمن والقوة، وإياكم والإلحاد فيه بالظلم، فإنه بوار عظيم.
وأيم الله، لقد علمتم أنه ما سكنه أحد قط، فظلم فيه وألحد، إلا قطع الله عزوجل دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضها غيرهم، فاحذور البغي، فإنه لا بقاء لأهله، قد رأيتم وسمعتم من سكنه قبلكم، من طسم وجديس والعماليق، ممن كانوا أطول منكم أعمارا، وأشد قوة، وأكثر رجالا وأموالا وأولادا، فلما استخفوا بحرم الله، وألحدوا فيه بالظلم، أخرجهم الله منها بالأنواع الشتى:
- فمنهم من أخرج بالذر..
- ومنهم من أخرج بالجدب..
- ومنهم من أخرج بالسيف.
وقد سكنتم مساكنهم، وورثتم الأرض من بعدهم، فراعوا حرم الله وعظموا بيته الحرام، وتنزهوا عنه، وعما فيه، ولا تظلموا من دخله، وجاء معظما لحرماته، وآخر جاء بائعا لسلعته، أو مرتغبا في جواركم، فإنكم إن فعلتم ذلك: تخوفت أن تخرجوا من حرم الله، خروج ذل وصغار، حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم، ولا إلى زيارة البيت، الذي هو لكم حرز وأمن، والطير والوحوش تأمن فيه.
فقال له قائل منهم: من الذي يخرجنا منه؟، ألسنا أعز العرب، وأكثرهم رجالا وسلاحا؟..
فقال له الناصح: إذا جاء الأمر بطل ما تقولون، ولسوف يذهب عزكم وكثرتكم، كما ذهب عمن كان قبلكم.
فقال آخر: تزعم أن الله مخرجنا منها، ونحن فيها منذ أمد طويل، ولم يصبنا شيئا من العذاب؟.
فقال الناصح: إن أيام الله ليس كأيامنا، فيوم عنده كألف سنة مما نعد، وإن الله قد علمنا من سنته أن الظالم لا يهمل، وإن تأخر العذاب عنكم يوما أو شهرا أو سنة، فذلك نذير شؤم ووبال عليكم، وهذا من استدراج الله لكم لتزدادوا إثما، فلا تغتروا بالإمهال والرزق والأمن، فإن الله قد وضع لكل شيئا أجلا، فإذا جاء أجله فلا يرده شيء، وإذا أراد بقوم سوءا، فلا مرد له، ولا ناصر لهم، وليس لهم من دونه من وال.
فردوا عليه وكذبوه، وأهملوا نصيحته، واتهموه بالمبالغة، وتغافلوا عن خطاياهم، واندفعوا في الظلم، ونسوا حرمة البيت الذي هم بجانبه، وتعاموا عن سوءاتهم وذنوبهم:
فسلط الله عليهم خزاعة، فأخرجتهم من الحرم، وأذاقتهم العذاب، وسقتهم من كأس الظلم الذي كانوا يسقون غيرهم بها، فلم ينفلت منهم إلا الشريد وفنيت جرهم، أفناهم السيف في حربهم مع خزاعة:
- وتبدلوا بعد الأمن خوفا..
- وبعد الشبع جوعا..
- وبعد السعادة شقاء وألما، ووقع ما حذرهم وأنذرهم به الناصح، وندموا، وقرعوا أبواب الذل وأصابهم العار، فلم تقم لهم قائمة، فحزنوا على فراقهم مكة، وفي ذلك يقول شاعرهم عمرو:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامـــــر
بلى نحن كنا أهلهـا فأبـادنــا *** صروف الليالي والجدود العواثـــر
{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذها أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الأخرة}
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد