صلاح الدين الأيوبي في ذكراه


  

بسم الله الرحمن الرحيم

برغم رحيل صلاح الدين منذ أكثر من تسعمائة عام فإنه ما زال حاضراً في الأذهان، فقد مرض مرض الموت في فبراير من عام1193، وتوفي في أوائل مارس من نفس العام.

 

لكن لماذا هذه المكانة المميزة التي تضعه في مصاف الأسطورة؟ لقد أوضحت دائرة المعارف البريطانية أنه لم يكن يمتلك سلاحاً سرياً يفوق ما يمتلكه أعداؤه، ولم يكن جيشه يفوق جيش الصليبيين عددا أو عدة، لكنه كان يتمتع بإيمان راسخ بعدالة قضيته وتصميم قاطع على إحراز هدفه.

 

وبالطبع هذا ما يميز الشخصيات الفذة علي مدي التاريخ. والحكم علي شخصية مثله عادة يكون صعباً من محبيه ورفاقه، فتأثيره الشخصي عليهم يكون منحازاً وغير عادل. ولهذا يجب البحث عنه في المراجع الغربية، وما كتبته عنه وأسهبت في وصفه، كما يجب أن نحاول فهم الشخصية المحورية الأخري في هذا الصراع، وهي شخصية ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا.

 

لم يدخل ريتشارد إلى حلبة الصراع قبل عام1191، في حين تولي الحكم صلاح الدين قبل ذلك بأكثر من عشر سنين، نجح خلال هذه الفترة في توحيد كلمة العرب والمسلمين في دولة واحدة تحيط بدولة الصليبيين وتطبق عليها من الشمال والجنوب، وقد بدأ في إحكام الحصار حول قلاع الصليبيين المتناثرة التي بدأت تسقط الواحدة تلو الأخرى حتى التقي بهم في الموقعة الحاسمة في حطين، وقد كان انتصاره ساحقا وفتح ذلك الطريق إلي القدس التي دخلها في النهاية محرراً ليس غازيا، بخلاف ما فعل الصليبيون كبح صلاح الدين كل شهوة راودته في الانتقام، فقد أصر أن يدخلها في ليلة الإسراء والمعراج، وأمر بإصلاح المساجد وحماية الكنائس، وبدأ في التفاوض مع من بقي من جيش الصليبيين ممن وقعوا في الأسر، وهنا ظهرت سماحته وكرمه، فقد فرض الفدية علي من يستطيع دفعها، وأسهم في دفعها عمن لم يستطع، وتنافس معه شقيقه العادل الذي طلب منه أن يمنحه ألف عبد من الأسري، فلما منحه ما أراد اعتقهم وفك أسرهم.

 

وقد فعل صلاح الدين هذا وهو يعلم أن هؤلاء الأسري سيذهبون إلي صور آخر معقل للصليبيين ومن هناك سيكونون نواة للحملة الصليبية التالية، وقد وصل ريتشارد قلب الأسد إلي عكا، واشترك في حصارها مع جيش فيليب أغسطس ملك فرنسا، وباقي الجيوش الأوروبية، وعد هذا اختبارا صعبا لصلاح الدين فحاول بما توافر له من قوات فك حصار المدينة الصامدة لكن المد كان طاغياً.

 

تميز ريتشارد ببنيان قوي وشجاعة غير عادية وورث عن أبيه هنري الحكم بعد صراع طويل ودام معه وورث عن أمه اليانور قوة الشكيمة والإرادة القوية. وقد ترك خلفه صراعا قويا بينه وبين أخيه جون علي العرش وخلف وراءه في أوروبا سمعة دامية كمقاتل شرس لا يلين، وفي طريقه لفلسطين غزا صقلية وقبرص وبسط نفوذه عليهما. وكان التنافس بينه وبين فيليب يكاد يصل إلي حد الحرب. لم يكن بالطبع الخوف من الله أو الشعور بالندم هو الدافع للقيام بالحملة، بل إن الكبرياء والصلف كانا الدافعين الوحيدين.

 

وهكذا تقدم ريتشارد بقواته بعد سقوط عكا وعودة فيليب إلي فرنسا علي الطريق الساحلي ليصبح قائدا بلا منازع للحملة، وبرغم مقاومة صلاح الدين المستميتة فإنه كان يكسب أرضا جديدة ولو بثمن باهظ. وهنا ظهرت عبقرية صلاح الدين الاستراتيجية فقد دمر عسقلان وهي ذات أهمية حاكمة للطريق إلي مصر ليمنع ريتشارد من الاستيلاء علي قلاعها الحصينة، وتكون شوكة في جانب المملكة الإسلامية. ولم ينس أن يعوض أهل تلك البلد عما فقدوه. وكانت حربه علي جيوش ريتشارد استنزافا مستمرا ومفاوضات دائمة. وتميزت قيادته بعيون له في كل مكان، كانت توضح سكنات وحركات ريتشارد وفي النهاية عندما أصبح ريتشارد علي بعد أميال قليلة من القدس نما إلي علمه وجود قافلة هائلة آتية من مصر فسال لعابه عليها وغير وجهته للاستيلاء عليها. معتقدا أن القدس يمكن أن تنتظر لكن عند عودته إلي مكان استعداده كان صلاح الدين قد سمم الآبار وأصبح الهجوم علي القدس بلا ماء أمرا مستحيلا فبدأ انسحابه الطويل. وتعرض لغارة قوية في يافا كاد يفقد فيها حياته، فبدأت المفاوضات حول انسحابه، وهكذا فشلت الحملة في احتلال القدس. وكما خرج ريتشارد من فلسطين ليدخل التاريخ كبطل للأساطير بقي صلاح الدين كما يقول، رستون، كعلم ونموذج علي كفية سلوك المسلم الصالح، فبسبب عفوه ووجوه الخير المتعددة في طبيعته وسلوكه تجاه أعدائه سيـظل مشهورا إلي الأبد باللطف والتسامح والحكمة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply