ربط عدد من المفكرين الإسلاميين بين حالة الأمة الحضارية والسياسية وبين واقع تاريخي معين، محاولين إسقاط الأحكام الشرعية التي تنطبق على ذلك الواقع على الحالة السياسية العامة للأمة وبناء مقاربات أولية لسبيل النهوض السياسي بناء على ذلك. فلقد جعل الشيخ تقي الدين النبهاني من الحالة العامة للأمة اليوم أقرب إلى الواقع المكي وبالتالي قام بإسقاط الأحكام الشرعية المرتبطة بالواقع المكي على الواقع الحالي وحدد منهج التغيير السياسي بناء على ذلك واستبعد العمل المسلح وقال بالصراع الفكري، في حين ربط مفكرون وحركات أسلامية بين الواقع المدني وبين الواقع الحالي ودعوا إلى قتال الفئة الممتنعة والخروج المسلح على الحكام متجاوزين تعقيدات الواقع الحالي وحيثياته.
خلافاً لذلك عمل المودودي على قراءة الواقع في إطار شروطه الموضوعية التي أنتجته وفي ضوء\"الميكانزمات\"المحركة له والمتحركة فيه، والتي تشكل العوامل الحقيقية المؤثرة في هذا الواقع. وقد انطلق في تحديده لطبيعة الداء وجذوره والأسباب التي أدت إليه من تتبع الصيرورة التاريخية للأمة العربية والإسلامية وصولا إلى المرحلة الحالية.
وفي تتبعه للمراحل التاريخية التي مرت بها الأمة الإسلامية قام المودودي بتقسيمها إلى أربع مراحل رئيسة تحمل كل مرحلة منها خصائص وسمات معينة وتحمّل المرحلة التي تليها شيئا من هذه السمات التي جاء الواقع المعاصر مختزنا بها، وبالتالي يمكن القول: أن الواقع المعاصر عنده هو نهاية مسار التاريخ، وهذا ما يقوله المودودي نفسه في خطابه للشباب (بين يدي الشباب: 30-36) إذ يقول:\"وإن شئت فقل إن الذي نحصده في العالم هو ما غرس في ماضينا الغابر، وهذه هي سنة الله في الكون ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
أما المراحل التاريخية الأربعة فهي:
1- مرحلة الدعوة والتربية وإقامة الدولة الإسلامية.
2- مرحلة الملكية.
3- مرحلة الاستعمار.
4- مرحلة ما بعد الاستعمار.
في المرحلة الأولى كانت الدعوة وإقامة الدولة الإسلامية والفتوحات، وهي المرحلة التي تمثل\"الإسلام النموذج\"في أنقى صوره، عندما بدأ الرسول في الدعوة إلى عقيدة الإسلام وهديه، فآمن به ثلة من الصحابة الصادقين الفطنين، فابتلوا وعذبوا وصبروا، وثبت منهم من ثبت، وكانوا القادة الذين اختبروا وأقاموا بنيان الصرح الإسلامي الشامخ.
وتشمل هذه المرحلة أيضا بداية الدولة الإسلامية\"دولة المدينة\"ودولة الخلفاء الراشدين، حتى أواخر عهد عثمان بن عفان، ثم بدأت نار الفتنة والجاهلية تأكل هذا النموذج حتى قضت عليه. وشهدت هذه المرحلة بداية الفتوحات الإسلامية وقد امتاز الفاتحون الأوائل بخلق رفيع وتمثّل عميق للمباديء والقيم التي جاء بها الإسلام. بيد أن الأمر لم يستمر على هذا النحو، إذ إن كثرة عدد الداخلين الجدد في الإسلام، والذين لم يتلقوا التربية الإسلامية اللازمة، أدى إلى التحول إلى المرحلة الملكية في المرحلة التالية، والتي قلبت الحكم وقضت على فكرة الخلافة ليحل محلها\"الملك العضوض\".
ابتدأت الملكية منذ أرسى دعائمها معاوية بن أبي سفيان، عندما عهد إلى ابنه يزيد بالخلافة من بعده، متجاوزا أهم قواعد شرعية السلطة في الإسلام وهي مشورة أهل الحل والعقد. وتميزت المرحلة الملكية التي امتدت – عند المودودي– إلى مرحلة الاستعمار الحديث، بعدة مميزات منها:
1- حدوث شرخ كبير في العلاقة بين الفقهاء والعلماء وبين السلطة السياسية.
2- انتشار العصبية الجاهلية والعرقية.
3- تضاؤل الولاء لله وللرسول وحلول الولاء للنفس والقبيلة.
ويرى المودودي أن أصنافا من الجاهلية تسربت إلى المجتمع المسلم في هذه المرحلة كالاهتمام بالعلوم الإغريقية والفلسفة الجاهلية وتم تدوينها، كما انتشرت ألوانا من الشرك الخطير كالطواف حول القبور، وانتشرت الرهبانية إلى البلاد الإسلامية عن طريق الوعاظ والصوفيين.
ومن أبرز مظاهر الانحراف السياسي في تلك المرحلة – بالإضافة إلى تحول مصادر الشرعية من القبول والاختيار الشعبي إلى القوة والإكراه– مفهوم الطاعة المطلقة وتسويغ الاستبداد السياسي من خلال الفقهاء استنادا إلى أدلة واهية كالحديث المنسوب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - \"السلطان ظل الله في الأرض\".
من الواضح مما سبق أن المودودي يعتبر أن المرحلة الملكية قد قضت على كثير من المفاهيم الإسلامية الحاكمة، وتلاشت معها روحانية الدعوة الإسلامية في مقابل انتشار الروح العصبية والقبلية في الجانب السياسي والتني ألقت بظلالها على مختلف منا حب الحياة العامة في المجتمعات الإسلامية.
ثم جاءت مرحلة الاستعمار على أنقاض مرحلة الملكية السابقة، ويرى المودودي أن الاستعمار ينبغي النظر إليه من ثلاث زوايا:
1- هل الاستعمار فجأة أم جاء نتيجة عوامل متعددة؟
2- هل كان الاستعمار عسكريا محضا أم شمل جوانب مختلفة: سياسيا، ثقافيا، اقتصاديا، اجتماعيا..؟
3- ما هو رد الفعل الذي كان ضد الاستعمار: هل كان موحدا أم من طرائق متعددة؟..
في الإجابة على الأسئلة السابقة، يرى المودودي أن الاستعمار جاء نتيجة عوامل ذاتية في العالم الإسلامي مهدت الطريق له، أو على حد تعبر مالك بن نبي\"القابلية للاستعمار\"º حيث كانت الحالة الدينية والثقافية والاجتماعية تعاني من انحطاط كبير. ففي ذات الوقت الذي كان يعاني فيه العالم الإسلامي فسادا سياسيا وجمودا علميا واضحا، وانتشار مظاهر الفساد الأخلاقي والابتعاد عن الروح الإسلامية الفعالة لصالح روح الخمول والكسل كانت أوروبا تشهد نهضة علمية واقتصادية كبيرة وكانت تشق طريقها نحو التقدم الحضاري متسلحة بالفلسفة المادية الإلحادية والعلمانية السياسية التي تفصل بين الكنيسة والدولة.
وبالتالي عندما جاء الاستعمار إلى البلاد الإسلامية لم يكن استعمارا عسكرياً محضاً وإنما جاء مدججا بأحدث الأسلحة العسكرية ومتسلحا بالمعرفة والتطور لعلمي والاقتصادي، وفرض الاستعمار رؤيته وفلسفته على الدول المحتلة في مختلف المجالات، ويعلق المودودي على أثر الاستعمار قائلا\"إن المستعمرين الغربيين لو سلبوا أموالنا سلبا ونهبوا ثرواتنا نهبا، وقتلونا تقتيلا، وأبادوا أولادنا عن بكرة أبيهم، ودمروا بيوتنا تدميرا لما كان هذا الظلم أشنع وأشد قسوة نتيجة من الظلم الذي اقترفوه نحونا ببث سموم حضارتهم المدنية وثقافتهم الإلحادية وأخلاقهم المنهارة في مجتمعنا\".
أما عن تجاوب المسلمين مع الاستعمار فد انقسم إلى اتجاهين رئيسين: الاتجاه الانفعاليº والذي تأثر بالغرب والاستعمار دون تمييز بين المفاهيم فقبلوا المفاهيم الغربية الحديثة القائمة على الفصل بين الدين والدولة والمتعلقة بالمدنية والمجتمع، وكان أغلب أبناء هذا الاتجاه من الدارسين في الغرب أو الذين درسوا فقي المدارس الغربية التي أقامها الاستعمار في البلاد المحتلة. بينما الاتجاه الجمودي قاده المشايخ والعلماء، حيث رفضوا ومانعوا ما جاءت به الحضارة الغربية دون تمييز بين الغث والسمين، وعملوا على الحفاظ على التراث الإسلامي لكنهم في الحقيقة كانوا منعزلين عن المجتمع وتطوره. ويرى المودودي أن كلا الاتجاهين على الرغم مما فيهما من سلبيات قد أفاد المسلمين: الأول من خلال إتاحة وتوفير الإطلاع على الثقافة والمعرفة الغربية، أما الثاني فقد ساهم في الحفاظ على التراث والفقه وحمايته من الضياع أو النسيان..
أما المرحلة الرابعة والأخيرةº فهي مرحلة ما بعد الاستعمار، وتتميز هذه المرحلة بخروج الاستعمار من البلاد العربية والإسلامية لكن مع بقاء أدواته وأثاره وهيمنته غير المباشرة.
ويوجه المودودي في هذا السياق انتقادات عنيفة للحكومات العربية والإسلامية التي قامت على أنقاض الاستعمار، ويرى المودودي أن الصراع الذي كان يدور في البلاد الإسلامية كان يتمثل بين حكام يمسكون بزمام السلطة والقوة بعيدين عن هدي الإسلام في السياسة والحكم، وعلماء ودعاة لم يتلقوا تعليما عصريا يجعلهم قادرين على مجابهة التحديات. يقول المودودي\"أما الحالة الراهنة التي نحن عليها فخلاصتها أن الحكومات تأبى أن تتبع الوجهة التي تتجه إليها الشعوب. فهناك صراع مستمر عنيف بين الشعوب والحكام في جميع البلدان الإسلامية\".
ويمكن القوا مما سبق أن التراكمات والخصائص التي تميز حال المسلمين المعاصر في فكر المودودي، تتمثل في:
1- هناك جهل كبير في فهم تعاليم الدين ومفاهيمه الرئيسة التي تحكم التشريعات الإسلامية، وبالتحديد المصطلحات الأربعة: الإله، الرب، الدين، العبادة.
2- انتشار كثير من مظاهر الجاهلية الدينية والقبلية في مختلف مجالات الحياة.
3- جمود وتخلف في مختلف مناحي الحياة.
4- على الرغم من خروج الاستعمار إلاّ أن أثاره ما زالت واضحة ومؤثرة في المجتمعات المسلمة، وأبرزها التبعية الواضحة للغرب في السياسة والاقتصاد وحتى الفكر والمجتمع.
5- هناك صراع داخلي خطير في البلاد الإسلامية بين الفئة الممسكة بزمام الحكم والسلطة وبين الأمة التي تريد وتحب دين الله على الرغم من جهلها بأحكامه...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد