مِن مُتَعِ النفس استطلاعها على أحوال الناس، و رغبتها الأكيدة في معرفة ما هم عليه، و هذه من غرائز النفس التي لا تكاد تكون مفقودةً إلا عند أقوامٍ, قِلَّة.
و إذا كانت هذه بتلك المكانة الغريزية فلا بد من إعمالٍ, لأصلِ فهم تلك الأحوال، و الفَهمُ لـ ( التأريخ ) مهمٌ جداً، و رعايته أهم من مجرد مطالعته، إذ بالرعاية يكون الاطلاع والتحليل، وبالمطالعة يكونُ الإعمالُ للعين دون الفكر.
إننا لمَّا نظرنا في ( التأريخ ) على أنه قَصَصٌ تُحكَى، و أخبارٌ تُروى، دون الاهتمام بشأن التفهٌّمِ له، والتبصر بأبعاده و مقاصده كان أن حلَّ بنا المرَضُ الذي نملكُ علاجه، وأهلكنا الضمأ ونحن نرى فجاجَه.
فبانَ أن فَهمَ ( التأريخ ) ذو أهميةٍ, بالغَة المدى، بعيدةُ الصدى.
قواعد فهمِ ( التأريخ ):
إلا أنه لابد من رعاية قواعد في فَهمِ ( التأريخ ) هُنَّ أساسٌ ذو متانة في الفهم و جدواه، وإليكها:
الأولى: قاعدةُ السببية.
( السببية ) أصلٌ كبيرٌ في باب الفَهمِ ( التأريخي ) و إغفاله خطأٌ خطير، و ذلك كون الأشياء حدوثها بأسباب وزوالها بأسباب، فمراعاة عامل ( السببية ) في ( تعليل التأريخ ) يورث لنا فهماً للحدث التأريخي بدايةً و انتهاءً.
و الغفلة عن قانون ( السببية ) غلطٌ بيِّن يُنتجُ فهماً مغلوطاً للحوادث.
و التحريف لحقيقة السبب فُحشٌ تأريخي يعقبه تحريف في حقائق التأريخ.
و بهذين كان أغلب الانحراف في فهم التأريخ.
و السبب للحدث التأريخي نوعان:
الأول: الفاعل، وهو القائم بأصل حدوث الحدث، و هو فرد أو جماعة.
الثاني: العوارض التي كان منها حدث الحدث التأريخي.
الثانية: العمران.
العِمرَانُ مَعقِدُ التقويم للأخبار، ومناطُ القيد في الفهم لـ ( التأريخ )، وكينونته أساساً لفَهمِ ( التأريخ ) من نواحٍ,:
الأولى: بيانُ صِدقِ الأخبارِ وَ كَذِبِها.
الثانية: بيانُ استحالةِ الوقوع للحادثة و عدمِ ذلك.
و لذا يقول ابنُ خَلدُون _ رَحمهُ الله _ (( المُقدِّمَة )) 42: [وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم إن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح. ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول الفظ وتأويله بما لا يقبله العقل. وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط ] أ.هـ.
الثالثُ: السٌّنَن الكَونِيَّة.
السٌّنَنُ الكونيَّة من الأمور المَرعِيَّةِ تأريخياً، و مِن الأمور السائرة أساساً في فهم ( التأريخ )، و إهمالُها مُؤذِنٌ بقُصُورٍ, في الفهم و العبرة لـ ( التأريخ ).
و لعلَّ الزمانَ يَفسَحُ الله فيهِ فأرقُمُ كلاماً حولها أو يرقُمُه من نالَ الخيريةَ و الأهليَّة.
طرقُ فَهمِ ( التأريخ ):
بَعدَ تقريرِ قواعد الفهمِ لـ ( التأريخ ) لابد من الإشارة إلى طرقٍ, لرعاية تلك الأهمية، ولذا فقد حَصَرتُ الطرائقَ فيما يلي:
الطريقُ الأولى: التدرٌّج.
يَدفَعُ الحِرصُ بعضَ المُثَقَّفِين إلى أن يتبنَّى قراءةً لـ ( التأريخ ) يرجو من خلالها فهمَهُ له، وغالبُ تلك القراءات تَتَّسِمُ بِسِمةِ العَشوَائِيَّة، بمعنى: أن القارئَ يتلقَّف أي كتابٍ, يحوزُ على رضاه.
ولا ريبَ أن هذه السابلة المسلوكة في القراءة والتثقف لا تؤتي إلا ثماراً لا تسمنُ ولا تغني، حيثُ كان الطريقُ غير مُجَرَّب.
والتدرٌّج المُرَادُ هنا، نوعان:
الأول: تدرٌّجٌ في السياق التأريخي.
والمعنى: أن يَشرَعَ القارئُ بقراءة ( التأريخ ) من أوله، والأولية إما أن يراد بها الأولية المطلقة _ أي: أول التأريخ، وإما أن يراد بها الأولية النِّسبِيَّة كأول دولة أو ديانةٍ,.
الثاني: تدرٌّجٌ في القراءة.
أي: أن تكونَ القراءةُ في كُتُبِ ( التأريخ ) على وَفقِ التنقل المَرحَلي.
فإن كثيراً من المُثَقَّفِين لا يفهَم و لا يعرِف فِقهَ القراءات الثقافية، فإن القراءةَ فَنُّ له أصوله و قواعده.
و المُشتَغلينَ بـ ( التأريخ ) قد وقعوا في مثل هذه الآفة، وتجاوُزها من أبسطِ ما يكون لمن شَمَخَت أنفُه نحوَ التحقيق في الفن، والدرايةِ الأصيلةِ فيه.
و المَرجِعُ في ذلك إلى أهل العلم المتخصِّصِين في الفن عامةً أو المُتَخصِّصِين في جانبٍ, من جوانبه.
فهذه الطريقُ أساسٌ في الفهم ( التأريخي )، و قاعدةٌ جُلَّى ينبغي لـ ( التأريخي ) و ( المؤرِّخ ) أن يرعيانها حقَّ الرعاية.
الطريقُ الثانية: التبصٌّر بالأشباه.
جَرَت كلمةٌ من المؤرخين يقولون فيها: ( الحاضرُ أشبَهُ بالماضي من الماء بالماء ) أ.هـ.
و هذه القولةُ لم تكُن خارجةً مخرَج الحديث الذي تُقَطَّع به المجالِس، و إنما خرجت مخرَجَ التقعيد و التأصيل لمسألةٍ, مهمة له أحداثها في علم ( التأريخ ).
فاهتمام ( المؤرِّخُ ) بأحوالِ ( التأريخ ) و مقايسةِ الحاضر بأشباهه في الماضي يُكَوِّنُ لديه تَفَهٌّمَاً للحقائق (التأريخية).
و لمَّا بُلِيَت أنفُسُنَا بالصُدُودِ عن تلك اللفتة صار ( التأريخ ) عند كـ ( حكايات الجدات ) أو ( أساطير الخيال ) على أن ( حكايات الجدات ) و ( أساطير الخيال ) تُعطينَا فوائدَ وعِبَرَاً غزيرة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد