بسم الله الرحمن الرحيم
لا ينازع أحد في حتمية ترتيب أولوياتنا وفق معطيات الواقع وباعتبار تقدير المآلاتº فالاستطاعة وتحقيق مقاصد الشريعة (مصالحها) حدّان ضابطان للواجب كيفما كان، ومعياران ملزمان للمكلف على كل حال، وعلى أساس من ذلك تتحدد قائمة أعمالنا وسلسلة أولوياتنا.
والذي أريد أن أنوِّه عليه هنا: كون ترتيب هذه الأولويات لا يقتضي إهمال المتأخر منهاº فبعضها ـ وإن كان مطلوباً على التراخي ـ غير أنه لا يُنتظَر له أن يتحقق في حينه الموائم هكذا من فراغ، أو أن تُختَزَل مسافات تكوّنه واكتماله في لحظة حلول دوره (ضربة لازب)، وبلا أصول يتطور عنها ومراحل نمو يتدرج خلالها، فذلك كله مخالف لسنن الوجود، وسبحان الذي: {خَلَقَ الأَرضَ فِي يَومَينِ وَتَجعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبٌّ العَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقوَاتَهَا فِي أَربَعَةِ أَيَّامٍ, سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ استَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ ائتِيَا طَوعًا أَو كَرهًا قَالَتَا أَتَينَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبعَ سَمَوَاتٍ, فِي يَومَينِ وَأَوحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ, أَمرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدٌّنيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفظًا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ *} [فصلت: 9 - 12].
ألم ترَ أنك إن رغبت في ولد صالح يدعو لك حين ينقطع عملـك، وتـتـوكـأ عليـه عنـد ضعـفك وكبـرك..توجَّـب عليـك ـ لا ريب ـ أن تستنبت بَذرته الآن وإن لم تجنِ ثمرتها من تَوِّك؟
ستختار له المنبت: {وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخرُجُ نَبَاتُهُ بِإذنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]، وستبذر وتحرث وتسقي، فإذا ما نبت واليتَه بالعناية، وكفلته بالرعاية، ونقيت له محيطه من كل فساد ودغـل، وحميته من كل شر وخطر، وحطته بالحذر من جهاته الأربع، حتى إذا بلـغ أشـده واسـتوى ـ وقـد آن أوان جنيك ثمـرة التعـب ـ وجـدته قـد وافاك وأنت في أمس الحاجة إليه.
أتراك فاعلاً كل هذا جملة واحدة، دفعة واحدة، حينما تحل لحظة حاجتك تلك؟!
وكذلك الحاذق من الناسº يرصد قمح الصيف للشتاء، ولكنه لا يؤخر حرثه ليوم حصاده، ولا يتواكل على أنه قد كُفِـيَ يومَه أو سنتَه، ولا يُسوِّف أنه الآن في غنى عن مشقات الفلاحـة، أو أن ما يـلزم إنجـازه عـلى الفـور مقـدم علـى ما لا حاجة لنا فيه الساعة.
إن مراداتنا كأمة قد تستغرق جيلاً أو أكثر، أو بعض جيل، وكثير من هذه المرادات لا يحتمل التأجيل، لا من جهة الانتهاء ولكن من جهة الابتداء.
فقد نتفق ـ مثلاً ـ على إرجاء إنفاذ تصور ما، غير أن هذا الإرجاء مقدر بوقت ـ قصر أو طال ـ أو هو مؤجل التقدير بحسبه وبحسب ما يلفه من معطيات وتقويمات، ولكـن تبقى هناك بدايات لا بد من الشروع فيها، والتدرج من نقطتهـا، والتحرك من خـط انطـلاقها شيـئاً فشيـئاً، إلـى أن تجـتمـع لنا عناصر الاكتمال، ناهيـك عما يتصـل بـذلك التصـور من تصـورات داعـمة مهيـئـة لأن تنجـز، ومن غير أن يتصـل بإنجـازها ضـرر أو مفسدة، أو تأخير لما هو أولى.
خذ مثلاً:
يرصد المتابع نضجاً ملحوظاً يتجه بجماعاتنا الإسلامية ـ أو بقطاعات منها ـ إلى التسليم بضرورة تحركنا كأمة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، ما من شأنه تكريس القناعات بأنه لا خروج من التنازع والفشل إلا من خلال مرجعية موحدةº وإن تعددت أطيافهـا، وهـذا أمل عـريض لا يتم بضغطة (زر)، ولا ينشئه مجرد قرار أو بيان، ومن جهة أخرى: لسنا نقدر له عمر إنجاز قصيرٍ,، كي ننظر في مناسبته للمرحلة الراهنة من عدمها.
إن لهذا الإنجاز متطلبات تربوية هي أعمق في أبعادها من الهيكلة التنظيمية واللوائح الداخلية وسائر آليات التكتل والاجتماع.
والمطلوب أن نوافي لحظة الإنجاز النهائية ـ في حينها المناسب المختار ـ وقد استوفت مناهجنا التربوية مقاصدها، وبلغت من إعدادها لنفوس المجتمعين ما يؤهلهم لمشروعها. مطلوب أن ترتقي تربوياتنا بوعي جيلنا الناشئ فوق ما قصَّر عنه جيلنا والأجيال قبلهº كي نكون أكفاء لهذا الانصهار الكبير في الجسد الكبير.
ألا فلنرفع القواعد، بانتظار أن يحل الموسم لنؤذِّن في الناس: {وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] «وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله»(1).. فيلبوا.
وقِس عليه..
فكثير من الغايات والأهداف قـد تـتوفر إمكانية تحقيقها، ولكن يكون إتمام إنجازها في ظرف بعينه موضعَ نظــر، أو يفتقد تحقيقها في مرحلة معينة شرط الملائمة والتناغم، فيصطدم مع طبيعة تلك المرحلة ويناقض أهدافها. غير أن الذي أعنيه ـ هنا ـ ليس تمام الإنجاز واكتمال نضجه واستواءه علـى سوقه، بل مـكوناتـه وممكنـاته الأوليـة التي لا يشملها هذا الاعتبار السابقº فهذه يلزمنا إنجازها لمعنيين: الأول: قيمة الوقت. والثاني: الأثر الإيجابي لتزامن وتوازي الأعمال على الأعمال نفسها، سواء بالنسبة لكل منها على حدة، أو بالنسبة لها مجتمعة.
ثم إنه قد بقيت نقطة مهمة تتصل بالمثل المضروب، وبالمعنى المراد:
أقول: هذا الكم الهائل من الأفكار والأطروحات الذي يملأ علينا ساحاتنا ومكتباتنا.. º ما السبيل إلى جمع الناس عليه، مع تعدد آرائهم في مفرداته، وتباين مواقفهم منـها؟ أَوَ غير المرجعية الموحدة للأمة الواحدة سبيل لجمع الناس؟
إن المرجعية التي ننشد ليست إلغاءً للتعدد الكائن في ساحتنا الإسلامية ما بقي هذا التعدد مصلحة لجماعاتناº فإن يكن بهذا الاعتبار قبلناه وباركناه، وإلا فهو معوق رئيس لمشروع وحدتها، كمـا أن مصلحـته مـن جـهة الأصـل هـي ـ أيضاً ـ مؤقتة، وقد تستدعي مراعاتها ـ في مرحلة ما ـ إذابة تلك الكيانات ودمجها في دائرة الأمة، وليس بغائب أن الولاء في هذه الدائرة ينبغي أن يُقدَّم على كل ولاء حزبي خاص، حتى مع بقاء التعدد في ساحتنا الإسلامية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد