بسم الله الرحمن الرحيم
لعلنا نشفق على أنفسنا من كثرة ما تحدثنا ونتحدث عن القصور الإعلامي والتربوي الذي نمارسه تجاه أطفالنا وما يرافق هذا القصور من ممارسات ضررها أكثر من نفعها. ورغم كل ما تحدثنا به عن قصورنا هذا لا نمل من العودة بين الفينة والأخرى إلى هذا الجانبº وهي عودة تستوجبها هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها العالمان العربي والإسلاميº ولكنها صحوة رغم اتساعها وإشراقها مازالت تثير التساؤلات حول وضع الطفل المسلم والشاب المسلم من الناحيتين التربوية والإعلاميةº الذي صار إشكالية يجب أن نسعى إلى حلها على أسس عقلانية وعلميةº ووفق ما نصَ عليه شرعنا الإسلامي المتكامل.
ولنوضح هذه الإشكالية، ليعد كل منا إلى طفولته، وليحاكم من كانوا يقومون على تربيتنا آنذاكº وسنجدهم كانوا يخطئون تجاهنا تربوياً. وبالطبع لا نلومهم الآنº فهم تلقوا ما مارسوه علينا عن آبائهمº على أساس أنه التربية الصحيحة، وبدورنا صرنا نمارسه على أطفالنا على نفس الأساس. فهل كانت هي التربية الصحيحة حقا؟
لأجيب أذكر من سنوات طفولتي الأولى، ذلك المعلم الوقور الفاضل الذي كان يعلمنا في الصف الثاني الابتدائيº وخلال شهر رمضان المبارك كان يحدثنا عن فضائل الشهر وفوائد الصومº ومنها كما كان يشرح: تربية الإرادة عند الإنسانº فيمتنع الصائم عن الطعام والشراب وهما بين يديهº و \"..يمتنع عن الاقتراب من زوجته طوال النهار وهي معه في بيت واحد\"!
كانت كلماته الأخيرة تشعرنا بالخجل مما كان يفعله آباؤنا مع أمهاتنا في النهارº فآباؤنا يقتربون من أمهاتنا أثناء فترة الصومº وأبي كان يربت بيده على كتف أمي مثنياً على جهودها في إعداد مائدة الإفطار!!
ولهذا لم يعد واحد منا يتمالك خجله مما يفعله والداه وهو يسمع نفس درس المعلم عن عدم \"اقتراب\" الزوج من زوجته خلال فترة الصومº فوقف باكياً وأعلن بخجل أن أبيه يجلس بجانب أمهº بل يصلي إلى جانبهاº وعندها تبسم المعلم أدرك أي مفهوم خاطئ لكلمة \"الاقتراب\" قد زرعه في نفوسناº فقرر أن يصحح هذا الخطأ فقال: أنا يا أبنائي لم أقصد أنه خلال فترة الصوم نهاراً لا يجوز أن يقترب الزوج من زوجته أو يلمسها كما فهمتمº بل قصدت أنه لا يجوز أن يعاشر الزوج زوجته نهاراً..
زادتنا كلماته حيرةº وبالطبع لم نجرؤ على سؤاله عن معنى \"أن يعاشر الزوج زوجته\"! ولكني أتساءل الآن إن كان من الضروري أن يحدثنا معلمنا آنذاك عن هذه الناحية ونحن في سنَ لا تؤهلنا للاستماع إلى مثل هذا الحديث.
وحرّم عالمنا الرياضة!!
ومثال آخر عندما وقف أحد علمائنا خطيبا في يوم الجمعةº ولعل هذا العالم قد انتبه إلى أن عدداً كبيراً من المصلين هم من الشباب واليافعينº والذين صارت تمتلئ بهم مساجدنا في كل صلاة ضمن صحوتنا الإسلاميةº ولذلك ارتجل عالمنا الفاضل هذا خطبة أثنى في مستهلها على الشباب لمواظبتهم على حضور صلوات أيام الجمعº ولكنه سرعان ما انهال عليهم بسياط الوعيد والتهديد، وأنذرهم بالويل والثبور لأنهم يمضون قسماً من أوقاتهم في مشاهدة مباريات كرة القدم والذهاب إلى الملاعب، مشجعين هذا الفريق أو ذاكº بدلاً من أن يستغلوا كل أوقاتهم في قراءة القرآن الكريم والعبادات!
ولكي لا أطيل في الأمثلة غير السارة هذه أذكر مثلاً مضاداً، وذلك عندما عاد ابني المراهق من مدرسته ليخبرني أن فريقه الكروي قد فاز في مباراة كرة القدم على الفريق الخصم من نفس الصف، مع أن مدرس مادة التربية الدينية هو حارس المرمى في الفريق الخصم ذاكº فساقني الفضول لزيارة المدرسة في اليوم التالي لالتقي مدرس التربية الإسلامية ذاك، فشرح لي أن الطلاب قد شغلتهم محلات ألعاب الفيديو والكمبيوتر على ما فيها من ضرر عليهم فرأى أن يحول طاقتهم إلى الرياضة. لذلك وبعد أن شرح لهم أن الإسلام قد أمر بممارسة الرياضة لما فيها من فوائدº قسم الصف إلى فريقين متنافسينº وصار يجري لهم مباريات كروية تنافسية، بالتنسيق مع إدارة المدرسة في حصص الأنشطةº ولكي يزيد من حماسهم للرياضة هذه جعل من نفسه حارس مرمى في أحد الفريقين.
إنه مثال مشرق ولكنه نادر. فرغم صحوتنا الإسلامية المباركة مازلنا نفتقد الخطاب التربوي الذي يراعي أعمار الفئات التي يتجه إليهاº ولذلك تجدنا في معظم مدارسنا وعلى منابر مساجدنا نخاطب الأطفال على أنهم شبابº ونخاطب الشباب على أنهم كهول قد تجاوزوا احتياجات مرحلتهم العمرية. وفي النهاية نخاطب الجميع على أساس أنهم كهول، وعلى معظمهم أن ينتظروا مصائرهم القاتمة لأنهم يمارسون ما يمارسه الأطفال واليافعين والشباب! وما أكثر الأمثل!
وأراني مرة أخرى أنساق للأمثلةº فأقف عند كتاب في أحد مناهج التربية في دولة عربية مسلمة، وفي هذا الكتاب درس عن يوم القيامة يتضمن صورة لوادٍ, مليء بالوحوش والشياطين المرعبة، وكلها متوثبة لالتهام الأطفال الذين يتساقطون من أعلى الوادي لأنهم وكما في الصورة يمشون على خيط رفيع ممتد على طرفي الوادي ليعبروا فوقه من طرف لآخرº وهذا الخيط هو الصراطº والأطفال الذين يقعون من فوقه وهم يعبرون عليه هم الأطفال الذين ساءت أعمالهم في الدنيا.
وأتساءل: هل هناك رعب وترهيب موجه لأطفال مسلمين أكثر من هذا الرعب؟
قد يقول قائل: أو تريد أن نغيِّب عن مناهجنا التربوية الموجهة للأطفالº وعن خطبنا الدينية حقائق ثابتة فلا نتحدث عنها؟!
الاحتكام للسيرة النبوية
إن الجواب على مثل هذه التساؤلات تقدمه السيرة النبوية الشريفة، ويجيب عنها المنهج التربوي المتكامل كما مارسه وقدمه لنا الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -º فمن الثابت أن الأطفال قد حظوا باهتمام كبير جداً منه- صلى الله عليه وسلم -º فكان يقطع صلاته تأثراً إذا سمع بكاء طفل، ويلوم أمه لأنها لا تسكته وتمنع عنه أسباب البكاء من جوع أو وجعº وكان - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل السجود في صلاته عندما يصعد حفيداه - رضي الله عنهما - على ظهره الشريف وهو ساجد كي لا يفسد عليهما متعة ممارستهما لطفولتهما.
هذه الأمثلة وكثير غيرها مما حفلت به السيرة النبوية الشريفة برهان ساطع على أن النبي الكريم والمعلم الأول- صلى الله عليه وسلم - قد ترك لنا منهجاً تربوياً متكاملاًº راعى فيه صلوات الله عليه دائماً مراحل العمر وما تحتاجه وكيفية وماهية الخطاب الموجه إليها.
التنمية الثقافية الإسلامية
ومرة أخرى أقول: إننا لا نلوم الآن ذاك المعلم أو هذا الخطيب في الأمثلة التي ذكرتهاº بل نلوم أول ما نلوم قصور المنهج التنموي الثقافيº فما زال معظمنا يرى أن التنمية الثقافية هي التربية الدينية فقطº وأن تنمية الشعوب الإسلامية لن تكتمل ولن تتم إلا إذا توجهنا كلنا نحو العلوم الشرعية!!
إن التنمية الثقافية مفهوم يتسع لكافة مناحي الحياة الإنسانية ومختلف الجهد البشريº والتنمية الثقافية من المنظور الإسلامي تفرض علينا فيما تفرضه تحديد منابع الثقافة الإسلاميةº فالثقافات في المجتمعات الإسلامية هي بالضرورة ثقافة إسلاميةº والقرآن والسنَة الصحيحة هما القاعدة الراسخة التي يجب أن تقوم عليها الثقافة، وتنهض على أساسها التنمية الثقافية من منظور إسلاميº وهذان الرافدان هما البحر الزاخر الذي تنبثق عنه كل المنابع التي تمد الثقافة الإسلامية بالحياة وبالقوة وبالانتصار وبالقدرة الدائمة على الإشعاع المستمرº كما تشمل منابع التنمية الثقافية الإسلامية مجموع التراث الحي الذي خلفه سلف الأمة الإسلامية لخلفهاº وهو التراث الزاخر الذي لا ينضب للحضارة الإسلامية في مظاهرها المتعددة.
والتنمية الثقافية أيضاً تتطلب منا القيام بعملية دقيقة لضبط المصطلحات وتقعيدهاº لتجلية المفاهيم وتأصيلهاº حتى لا تتداخل المعاني ويقع الخلط في الدلالات. ومنطلقنا في ذلك حقيقة أن السمة الإنسانية العلمية الروحانية هي السمة البارزة في ثقافتنا الإسلاميةº وهي السمة التي جعلتها ثقافة مؤمنةº إنسانيةº هادفةº بنَاءةº تستجيب لحاجات الإنسان الجسدية والروحيةº وتلبي طموحاتهº وتنسجم مع فطرتهº وتقوي في النفس البشرية حوافز الأمل والثقة والرجاء ونوازع الحق والخير والجمال. وبهذا المعنى الجميل الراقي فإن القصد من عملية التنمية الثقافية يجب أن يكون خدمة الإنسان أولاً روحياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياًº ومن الوجوه كافةº ومن الجوانب كلها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد