خلل في التدين


  

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما يصاب مفهوم الـتَّدَيّن بالخَلَل، أو يَحصل فيه نَقص فإن - مَفهوم الـتَّدَيّن - قد يُقصَر على المظاهِر..

وإذا أُصِيب - مفهوم الـتَّدَيّن - بالضٌّمُور فإنه قد يُدَّعَى أنه مَقصُور على ما في الصٌّدُور!

وهو في كِلا الحالين بين جَفاء وتقصير.

أما الـتَّدَيّن الصادق التام فهو ما يتمثل في المظهر والمخبر

في الظاهر والباطن..

في القول والفعل.. يُصَدِّق أحدهما الآخر.

 

وإذا بَحَثتَ عن التَّقِيّ وَجَدته *** رَجُلاً يُصدِّق قَولَه بِفِعَـالِ

 

وسواء كان رجلا أو امرأة

فالـتَّدَيّن يكون بِفِعل الطاعات واجتناب السيئات

وبِتَرك ظاهر الإثم كما يُترَك باطنه

فَيَجتَنِب المتدَدَيِّن الفواحشَ والآثام الظاهرة، ويَجتَنِب الآثام الباطنة، وربما كانت الآثام الباطنة أشد ضررا، وأعظم خطرا، وأكثر فَتكًا بصاحبها وما يشعر بها...

وما ذلك إلا لأن صاحب الفواحش يَخشى من أعين الناس، أو مِن دَاء عُضال، أو مِن مَرَض مُستَشرِي.. وهو مع ذلك يشعر بتأنيب الضمير وزَجر الـنَّفس اللوامة..

أما صاحب الآثام الباطنة والفواحش القلبية.. فهو بمنأى عن ذلك.. وإن فَتَكَت تلك الآثام بِمَلِك الأعضاء!

تأمل في فئام من المتديّنين تَجِد بينهم من خَطايا القُلوب ما يَقِف له شَعر الرأس!

مِن تَحَاسُد وبَغضَاء

أو أحقَاد وشَحناء

أو بَغي بِقَولٍ, أو بِفِعلٍ,، أو بهما معا!

وهم - مع ذلك - يرَون أنفسهم من أهل الخير والصلاح، أو يَعُدّون أنفسهم من أهل العِلم والفضل ولو فَـتَّشتَ بعض زوايا قلوبهم لَوَجَدت أن بعض العُصَاة أسلَم منهم قُلوبا - من تلك الجهة - وأعني به أن بعض عُصَاة الظاهِر لا يَحمِلُون ضَغينة في قلوبهم، ولا يَحقِدُون حِقد جَمَل!

ولا يَبيت أحدهم إلا سَليم القلب على الخَلق..

فانحَصَرَت مَعصِية بعضهم في الديوان المغفور..

ولست أُهَوِّن مِن شأن المعصية، ولكني أردت بَيان عِظَم وخَطر خطايا القلوب التي ربما غَفَلنا عنها وعن إصلاحها.. بل وعن التوبة منها.

ولذلك كان تعاهد القلوب وإصلاحها أهَمّ وأولى مِن تَعاهد الظاهرº لأن صلاح الظاهر لا يَلزم منه صلاح الباطن، أما صلاح الباطن فهو مُستَلزِم لِصَلاح الظاهر.

وتأمل قوله - تعالى -: (إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آَيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ حَقًّا) تَجِد أن حقيقة الإيمان وتحقيقه دارت على خمسة أعمال: ثلاثة من أعمال القلوب، واثنين مِن أعمال الجوارح.

وَجَل القُلوب، وزِيادة الإيمان، والتَّوكّلº هذه مِن أعمال القلوب.

وإقامة الصلاة والإنفاقº مِن الأعمال الظاهرة.

ولأهمية أعمال القلوب قُدِّمَت، وكانت أكثر وأولى من أعمال الجوارح..

واعتَبِر بِذلك بِصَلاحِ الأشجارº فإنها إذا صَلَحَت آتت أُكَلها، وإذا أصابها الخلل ضَعُفَت ثِمارها، وإن بَدَت زَاهِية المنظر، إلا أنّ حقيقتها تَتَجَلّى عند اختبار الطَّعم!

ولذلك جاء مثل المؤمن والمنافق كمثل الأترُجّة والريحانة!

فالرَّيحانة طَيِّبَة الرائحة خبيثة الطَّعم، والأترجّة زَاهِية المَنظَر طَيِّبَة المَخبَر.

فكثير مِن خطايا الجوارح مُدوّنة في ديوان مَغفور..

وكثير من خطايا القلوب مُدوّنة في ديوان مَزبُور..

وفي الحديث: \" الدواوين عند الله - عز وجل - ثلاثة: ديوان لا يَعبأ الله به شيئا، وديوان لا يَترك الله منه شيئا، وديوان لا يَغفره اللهº فأما الديوان الذي لا يَغفِره الله فالشرك بالله، قال الله - عز وجل -: (إِنَّهُ مَن يُشرِك بِاللَّهِ فَقَد حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)، وأما الديوان الذي لا يَعبأ الله به شيئا فَظُلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، فإن الله - عز وجل - يَغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فَظُلم العباد بعضهم بعضا، القصاص لا مَحَالة \" رواه الإمام أحمد، وصححه بعض أهل العلم. ومَعناه صحيح.

 

خلاصة القول:

الـتَّدَيّن يقتضي صلاح الظاهر والباطن

والمُتَدَيِّن يترك ظاهر الإثم وباطنه

وليس من شرط التدين العِصمَة ولا السلامة من الخطأ..

والـتَّدَيّن استعفاف عن خطايا الجوارح وآثام القلوب

فكما يَحفَظ المتدين سَمعَه وبَصَره ويَده ورِجله وفَرجه عن الحرام، فإنه يَحفَظ قلبه عن الغِلّ والحسد وعن البغضاء والشحناء، وعن البغي والعدوان.. لأن تلك الأخلاق هي أخلاق وطبائع اليهود. بل هي مما استأصَل في قلوبهم..

قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) وهكذا وَقَع لهم، فإن عندهم مِن البخل والحسد والجبن والذّلّة أمـرٌ عظيم. اهـ.

وأفضل الناس \" مَخمُوم القَلب \" سَليم الطَّويّـةº وهو مِن أهل الجنة.

قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أفضل؟ قال: كل مَخمُوم القلب، صدوق اللسان. قالوا: صدوق اللسان نَعرِفُه، فما مَخمُوم القلب؟ قال: هو الـتَّقِيّ الـنَّقِيّ، لا إثم فيه ولا بَغي، ولا غِلّ ولا حَسَد. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

قال علي - رضي الله عنه -: ليس من أخلاق المؤمن التملّق ولا الحَسَد إلاَّ في طَلَب العِلم.

فاللهم ارزقنا قلوبا سَليمة.. لا إثم فيها ولا بِغي.. ولا غلّ ولا حسد..

ربِّ (وَلا تُخزِنِي يَومَ يُبعَثُونَ (87) يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَن أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ, سَلِيمٍ,)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply