صاح قائلاً .. أبي، إني أكرهك


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أبي إني أكرهك... صرخة مدوية صدرت من الابن ذات يوم مصرحا بها جهرة في وجه أبيه.. [إني أكرهك] كانت بمثابة الصاعقة التي قرعت أذن والده، ووقف الأب مذهولا أمام أفظع كلمة سمعها طيلة حياته.. ويسمعها مِن مَن؟ ممن ظن أنه أكثر الناس حبا له.. من ابنه.. فلذة كبده.. قرة عينه.. حبيب قلبه.

ويقولها لمن؟!! لوالده.. لمن أولاه الرعاية والعناية، وسهر طويلا في سبيل القيام على حياته وجعلها أفضل حياة، يقول ذلك لأبيه؟!! فمن ذا يحب إن هو كره أباه؟!!

شعور من الذهول والشلل الفكري انتاب الأب تجاه هذا الموقف الذي لا يحسد عليه.. ماذا عساه يفعل؟ وما هو رد الفعل المناسب؟ تراه يضربه.. أم يتركه ويمضي.. أم يأخذه بين أحضانه؟!!

إن كل فعل من ذلك لا يلائم هذا الموقف الرهيب.

 

تُرى أيها القارئ الكريم لو أن أحد أصدقائك حكى لك تلك الواقعة، واستشارك، بم سوف تجيبه؟

أيا كانت إجابتك.. رجاء.. لا تتسرع وتلقي باللائمة على الابن، وكأن الأب هو الضحية، والجاني عليه ولده. فإن ما حدث كانت النهاية، ولم تكن البداية...

 

قد كان الابن ـ وللأسف ـ ضحية أبيه الذي أوصله إلى أقصى درجات العناء النفسي، والذي جعل من هذه الكلمة [إني أكرهك] بمثابة فوهة البركان الذي ينفث بها عما بداخله.. أقول \'فوهة البركان\' فليست هذه الكلمة هي البركان ذاته، فإن ما بداخل هذا الابن من الكبت والضيق ما طفح به الكيل حتى أخرج بعض زفراته في ساعة هم وغم كادت تقتله كمدا.

دعني أوضح لك الأمر قبل أن تتحامل على كاتب المقال.

 

بديهيات واهمة:

يوجد في مخيلة كثير من الآباء جمل محفورة في أذهانهم أصبحت بمثابة المسلَّمات التي لا تقبل الجدل أو النقاش، أمثال: [كل الأبناء يحبون آباءهم]، [حب الابن لأبيه واجب شرعي]، [فطر الله الأبناء على حب الآباء]... إلخ.

وأنشأت هذه المسلَّمات في خيال كثير من الآباء أيضا خطوطا حمراء وهمية لا يتصور بحال أن يتخطاها الأبناء، أو حتى أن يقتربوا منها، وعدوا غشيانها من قبيل المستحيلات الممتنعة الوقوع أصلا، وأمثلة هذه الخطوط الحمراء [بغض الابن لأبيه أو أمه].

وربما فرضوا على الابن ذاته شيئا من تلك البديهيات، وطالبوه بالتسليم بها، إن لم يكن بالتصريح فربما بالتعريض، فعلى سبيل المثال: عندما يُسأل الابن عن أحب الناس إليه، فإن الإجابة الحتمية الفورية لابد أن تكون: أمي أو أبي.. أو كليهما.

وفي الحقيقة إن هذه القواعد والمسلَّمات التي وضعها الآباء في مخيلاتهم ما هي إلا أضغاث أوهام عشعشت في عقول كثير من الآباء، لا رصيد لها من الصحة، وسببها الرئيس هو الخلط بين عدة مفاهيم ظنوها مترادفة، وعدم فهم حقيقة بعض الأوامر الشرعية.

 

مفهوم البر ومفهوم الحب:

إن وجوب بر الابن لوالديه أمر من بديهيات شريعة الإسلام، فهو حق أعقبه الله في كتابه بعد حق توحيده - تعالى -بالعبودية {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا}.. وجعل الله عاقبة العقوق من أشد العواقب التي يعجل الله حسابها في الدنيا قبل الآخرة قال - صلى الله عليه وسلم -: [ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم].

ولكن هل يعني وجوب بر الأبناء للوالدين وجوب حبهم؟! بمعنى آخر: هل لا يقبل الله البر من الأبناء ولا يثيبهم عليه إلا بشرط اقتران ذلك بحبهم؟

لقد خلط كثير من الآباء بين وجوب بر أبنائهم بهم من ناحية، ومحبة الأبناء لهم من ناحية أخرى، فظنوا أن كلا الأمرين متلازمان قرينان، لا سبيل لافتراقهما، فالبر عندهم مرادف للحب، والحب قرين للبر.

وفي الحقيقة هذا فهم خاطئ درج عليه الكثير من الآباء، والصحيح أن البر والحب أمران مختلفان تمام الاختلاف في المعنى والمنشأ والصورة الخاصة بكل منهما وفي طريقة التعبير أيضا.

فقد يحب المرء ما أظهر العقوق تجاهه، وعلى العكس قد يبغض ما هو مأمور بالبر به. كيف؟

 

أضرب مثالا أو مثالين للتوضيح:

من المعلوم أن من شروط كلمة التوحيد \'الحب المنافي للكره\'، فلا يتحقق التوحيد في قلب امرئ إلا إذا أحب الله - تعالى -المحبة التي تنافي الكره تمام المنافاة، بل لابد أن يحب كل ما يحبه الله - تعالى -ليحقق هذا الشرط اللازم للإتيان بالإيمان الواجب. ولا يُتصور مسلم يظل على إسلامه إن هو صرح ـ والعياذ بالله ـ ببغضه لله - تعالى -أو النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ومع ذلك فكم من مسلم عاق في حق الله - تعالى -، تجده مفرطا في أوامره، مرتكبا لنواهيه، ومع ذلك لا نقول بحال أن حب الله قد زال بالكلية من قلبه، وإلا نكون قد حكمنا عليه بذلك بالردة عن الإسلام، وإنما نقول أن إيمانه قد نقص بقدر تفريطه وتقصيره، وما زال حب الله له وجود في قلبه.

ومثال آخر:

من المعلوم أن من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة البراء من أعداء الله، ومنهم أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ، وهذا البراء يستلزم البغض لهم، والذي صرح الله به في قوله - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ} [الممتحنة: 1]. فبغض أهل الكتاب من فرائض الشريعة المحكمة، ومع ذلك أمر الله - تعالى - ببر طائفة منهم فقال: {لا يَنهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخرِجُوكُم مِن دِيَارِكُم أَن تَبَرٌّوهُم وَتُقسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُقسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

فلا تعارض بين أن يبر المسلم بتلك الطائفة من أهل الكتاب ويقسط إليهم ولا يظلمهم، وهو مع ذلك مأمور ببغضهم وعدم إظهار الحب لهم.

من هذين المثالين يتبين لنا أن البر ما هو إلا سلوكيات ومعاملات وأخلاق مصدرها الجوارح، وبرهانها الأفعال.. أما الحب فإنه مشاعر وأحاسيس داخل وجدان الإنسان قد تقترن بالفعل، وقد تفارقه، صحيح أن من علامات الحب الطاعةَ والبرَّ، ولكن ليس دائما يكون الدافع للطاعة والبر هو الحب، كما اتضح ذلك من المثال الثاني.

من هنا أقول: إن تلك القاعدة مطردة أيضا في العلاقة التي تربط الابن بوالديه، فكم من ابن يبر والديه ولكن بمشاعر ميتة، فلا يشعر بأدنى عاطفة تجاههما، فما هو إلا مُنَفِّذ لما أُمر به، مؤدٍّ, لما فرضه الله عليه... وفقط.

وفي الحقيقة هذا صنف من الأبناء قد أدى الواجب المفروض عليه شرعا، وأسقط عن كاهله تبعة الحساب الأخروي، فإنه يأتي الله - تعالى -يوم القيامة وقد برئت ذمته من خطيئة عقوق الوالدين، فإن الله قد فرض على الأبناء الإحسان للآباء فقال: {وبالوالدين إحسانا}، ولم يفرض على الأبناء حب الآباء، بل ترك هذه المشاعر ميدانا يتنافس فيه المتنافسون.

ولكن انتبه.. فإن المتسابقين الحقيقيين في ميدان تلك العاطفة ليسوا هم الأبناء.. وإنما هم الآباء، نعم، ويتضح ذلك من خلال العنصر الآتي.

 

حب الابن لوالديه فطري أم مكتسب؟

سبق وأن ذكرت في بداية كلامي أن من المسلَّمات الواهمة التي وضعها كثير من الآباء في خيالهم أن [الأبناء فطرهم الله على حب الآباء].

وهي جملة لا وجه لها من الصحة، ولكن يمكننا أن نقول أن الله فطر الأبناء على التعلق بالوالدين، فيجد عندهما السكن والأنس والهدوء والراحة ما لا يجده ـ في الغالب ـ عند غيرهما.

أما مشاعر الحب فهي في الحقيقة أمر آخر يكتسبه الابن على مر الأيام والشهور والسنين.

ودليل ذلك أنك ترى الله - تعالى - قد أكثر في كتابه من توجيه الأبناء وحثهم على البر بالوالدين، ولم يوجه الله - تعالى -في كتابه أمرا مباشرا للوالدين بوجوب البر بالأبناء، وذلك لأن الله - عز وجل - قد [فطر الوالدين على حب الأبناء]، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة، نعم.. فإن الأصل أن كلا الوالدين مفطوران على حب ولدهما، إلا ما ندر وشذ، وهذا الحب الفطري يدفع ـ في الغالب ـ إلى البر والإحسان إلى الأبناء.

أما الأبناء فإن الأصل فيهم العقوق، من أجل ذلك أكد الله في أكثر من موضع من كتابه على قضية وجوب أداء حقوق الوالدين.

يقول سيد قطب - رحمه الله -: \'ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين ـ وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية ـ... والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المُدبِر الموليº إذ الأولاد في الغالب يتجهون بكينونتهم كلها وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم، لا الجيل الذي خلفهم\'.

فإذا كان حب الابن لوالديه أمرًا مكتسبًا، وليس فطريا كما يفهم الكثيرون، إذن فالسؤال الطبيعي هنا، ما هو المحدد الرئيس في إنشاء عاطفة الحب لدى الأبناء تجاه الآباء؟

أقول: إن المحدد الرئيس في إنشاء تلك العاطفة، هو مدى قدرة الوالدين على إشباع الحاجات النفسية والروحية والعاطفية لدى الأبناء. وسأرجئ الكلام على سبل ذلك في موضوع مستقل إن شاء الله - تعالى -.

والذي أرنو إليه هنا هو توضيح أمر هام.. هو أن مشاعر الحب والمودة والتي يرتجي كل أب وأم أن تقترن بأخلاق البر والإحسان من أبنائهما هي أمر في أيديهما، لا في يد غيرهما، إن شاءا كان الولد بارا بهما محبا لهما، وإن شاءا جعلاه بارا بهما بلا عاطفة، وقد يكون في أحوال أخرى عاقا لهما غير بار ولا محب. ولكل حال من تلك الأحوال أسبابه التي تؤدي إليه، وسوف نُفَصِّل ما أجملناه في مقالات تالية إن شاء الله - تعالى -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 2 )

شكر وتقدير

-

متابع

10:24:30 2021-04-10

شكرا

قصتي مع كره أبي من فترة الصغر إلى يومنا هذا

04:57:21 2020-05-04

والله الكلمة هذي خرجت من فمي عندما كان في عمري 6 سنوات حتى أنني من استوعب ما قلته لأنه خرج من القلب مباشرة و المؤسف أن الكره يزاد يوم بعد يوم لدرجة اي مخرج يبعدني عليه اسلكه سواء عمل بعيد ام دراسة في بلد آخر أو حتى تمضية الخدمة الوطنية التي تتمثل في سنة المهم كل ما في الأمر أنآ احترمه كوالدي و له منزلة عالية في قلبي لكن والله ما أطيق الجلوس بجانبه اعلم أن الجميع يتسآئل مالسبب الذي أدى إلى كل هذه الكراهية بالرغم أن والدي انسان ملتزم ديني و...و... لكن معاملته لي و لي إخوتي و الوالدة الكريمة مما أدى الى كل هذا و في الاخير اطلب من الله شفاء قلبي و إطفاء غلي فهو القادر المقتدر و بيده الملك كله اللهم اني ضلمت نفسي ضلما كثيرا فلا يغفر الذنوب إلا أنت أستغفرك اني كنت من الظالمين. وشكرا