الزهد في المناصب


  

بسم الله الرحمن الرحيم

 لا تُحمَّل النفس شيئاً أشقَّ عليها من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب. ولكن الإخلاص في الأعمال بعضه أيسر من بعض، فقد يسهل على المؤمن أن يُخلص النيّة في الصوم والصلاة والحج والذكر... ولكن يصعب عليه أن ينجو من شوائب الشِّرك الخفيّ حينما يأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، وحينما يخالط الناس أو يتولّى أمورهم.

 

قال رجل: يا رسول الله إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأرجو أن يُرى موطني، فلم يردّ عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً حتى نزل قول الله - تعالى -: {فَمَن كانَ يَرجٌو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صالحاً ولا يُشرِك بِعِبادَة رَبِّهِ أَحَداً} الكهف - 110 (رواه الحاكم).

 

إن آفة طلب الصِّيت والشّهرة هي صِنو آفة الرّياء، كلاهما شهوة خفيّة أخفى من دبيب النّملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماءº وهي من أشدّ الشهوات جُموحاً، يعجز عن الوقوف على غوائلها ومكائدها خاصَّةُ العلماء والدّعاة، ناهيك عن عامَّةِ الأتقياء والهُداة.

 

قلَّ من الأعمال ما لا يكون للشيطان فيها نصيب وإن خفي، وللنّفس فيها حظّ ولو توارى. لذا فالصالحون يبذلون العطاء وهم خائفون وجِلون أن لا يُقبل منهم. يقول الله - عز وجل -: {والذين يُؤتونَ ما آتَوا وقُلوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إلى رَبِّهِم راجِعونَ} المؤمنون -60. قالت السيدة عائشة: يا رسول الله هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله؟ قال: لا يا بنت الصّدّيق، ولكنه الذي يصلّي ويصوم ويتصدّق، وهو يخاف الله - عز وجل -» رواه الترمذي بنحوه.

 

يغلب على ظن الكثيرين أن الزّهد الذي ندب إليه الإسلام رهين بالمأكل والمشرب والملبس والمسكن... إن هذا الزهد في شهوات الجوارح واللذّات هو بعض أنواع الزهد وليس كلها، فهناك ما هو أعظم منها، ألا وهو الزهد في الجاه والرئاسة، والصيت والشهرةº يقول الإمام ابن شهاب الزهري:

 

«ما رأينا الزهد في شيء أقلّ منه في الرياسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع في الرياسة حامى إليها وعادى»!

 

وهذا ما دفع الأتقياء من الأئمة والفقهاء في عهود السَّلَف والخلَف إلى رفض الوظائف والولايات التي تُعرض عليهم، ويتعرّض بعضهم إلى السجن والتعذيب لأنهم أبَوا أن يتولَّوها. يقول العارفون: متعلّق الزهد ستة أشياء، لا يستحق العبد اسم الزاهد حتى يزهد فيها، وهي: المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل مادون الله.

 

إن المتطلّعين إلى المناصب والمراتب هم من أشد الناس ابتلاءً، لأن اختبارهم لا ينجو منه أحد إلا من اتقى الله وبرّ وصدق، فبعضهم يأتي يوم القيامة بأعمال مثل جبل تهامة يجعلها الله كثيباً مهيلاً، وبعضهم يغدو عمله في اليوم الآخر كسراب بِقيعةٍ, يحسبُه الظمآن ماءً...

 

والذي يعمل ويُسمِّع، ويَشهد في إخلاصه الإخلاص، يحتاج إخلاصه إلى إخلاص! نرى كثيراً من أهل الإيمان يعملون بذكاء وإقدام، ولكن فاتهم التجرّد، وأعوَزهم الإخلاص، فظلوا في شاطئه واقفين، أو خاضوا منه ضَحضاحاً ولم يصلوا إلى الغَمر، فنكصوا على أعقابهم خائبين.

 

ليس المهم كثرة الأعمال وطنطنة الأقوال، إنما المهم أن نبتغي بأعمالنا كلها، عبادةً أو معروفاً أو إصلاحا أو مشياً في حاجات الناس، وجه الله واليوم الآخر. يقول الله - عز وجل -: {لا خَيرَ في كَثيرٍ, مِن نَجواهُم إلاّ مَن أَمَرَ بصَدَقَةٍ, أَو مَعروفٍ, أَو إصلاحٍ, بَينَ النّاسِ ومَن يَفعَل ذلكَ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللهِ فَسَوفَ نُؤتيهِ أَجراً عَظيماً} النساء - 114.

 

فيا أيها الطامعون في الأضواء، المستشرفون إلى العلاء، الداخلون طواعية أو كرهاً في اختبار الصدق والرّياء! لا تَبنوا أموركم على غير الصدق لرب الناس، ومن التمس منكم الجزاء بالرياء فبئس الالتماس!. فإذا ظفرت ببعض هواة الغرور حسبتهم أيقاظاً وهم عن الحقيقة رقود، فِكرهم مظلم وصَدقهم مفقود لله المعبود.

 

فانتبه! فلن يَسعد إلا الصادق التقيّ، وكلّ من عَداه فهو خاسر شقيّ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply