أبناؤك وتفويض المسؤولية


  بسم الله الرحمن الرحيم

مع اقتراب العام الدراسي من الانتصاف في معظم المراحل الدراسية (من الأساس وحتى الجامعة) تزداد مشاكل الآباء والأمهات تعقيدًا.

 عند بداية العام الدراسي - وبعد الراحة الكبيرة التي نالها الآباء والأمهات في فترة الإجازة - يكونون قد امتلكوا رصيدًا جيدًا من الاستقرار العاطفي يمكنهم من إدارة بداية فترة العام الدراسي المليء بالمشاكل بنجاح، وغالبًا ما تبدأ المشاكل من الصباح الباكر بعملية الإيقاظ المملة، وخصوصًا للصغار الذين لا يريدون الذهاب إلى المدرسة!، مرورًا بأعباء النهار من أعمال منزلية للأم، وأعمال إصلاحات وترتيبات للأب، وانتهاءً بأعباء الأبناء المسائية من مساعدة في واجبات الدراسة المنزلية، وشراء اللوازم، وغيرها.

أما في مثل هذا الوقت (منتصف العام الدراسي) فيبدأ صبر الآباء بالنفادº وذلك لتسرب رصيد الراحة والهدوء بسبب الإجازة من بين أيديهمº فتبدأ في سماع عبارات مثل:

* الود ده أصلوا ما بفهم!.

* دائمًا ما بتعلموا حاجة غير تعكروا المزاج!.

* أصلكم أولاد ما فيكم فايدة!.

وذلك بالتأكيد يزيد المشاكل تفاقمًا، ولكنه لحسن الحظ يزيدها جلاءً ووضوحًا، ويجعلك دائمًا تتساءل: لماذا أنا دائمًا حالي هكذا؟!، وحال أولادي؟!، لماذا فلان ليس مثلي؟!º ودائمًا هادئ البال؟! يا ترى! ما الحل؟!..مما يجعل هذا الوقت من العام أنسب من غيره لإيجاد، وتفعيل الحلولº فهو ليس متأخرًا لآخر العام حيث الامتحانات والضغوط الكثيرة التي تجعل الحل متعذرًا، ولا هو مبكرًا قبل أن تحس أنت حتى بالمشاكل بشكلها الصحيحº فهو الأفضل من بين الأوقات للنظر بعمقº ومحاولة علاج المرض بدلاً من مواصلة تخفيف أعراضه.

في هذا المجال تعتبر تغيير نظرة الآباء إلى أبنائهم من أهم التحديات التربوية التي تواجههم لتغيير هذا الوضعº إذ يجب أن تتغير نظرتهم لأبنائهم من نظرة مستصغرة لهمº ترى أفعالهم دائمًا خالية من الخبرة والمسؤولية إلى النظر إليهم كأشخاص قادرين، فاعلين، مسؤولين، يمكنهم تحمل الكثير من الأعباء..

فإن كان الآباء يظنون أن المشكلة من الأبناء فهذا أول المرض، ومنه (من تلك النظرة) تبدأ مشكلة الاتكالية الكلية للأبناء على آبائهمº فهم لا يستيقظون وحدهم، ولا يؤدون واجباتهم المدرسية وحدهم، ولا يفعلون شيئًا للمساعدة في أعمال البيت... الخº مما يلقي بالعبء كله على الآباء.

والحلول دائمًا تبدأ من حيز التفكير والاعتقادº فلابد أولاً من التفكير فيهم بشكل مختلفº على الأقل كأشخاص يستطيعون أن يعتمدوا على أنفسهم ولو جزئيًا، ولكن يحتاجون إلى بعض التدريب والصبر.. وذلك بطبيعة الحال لا يغني عن الوسائل التي تعين على نقل الفكرة من حيز التفكير المحض إلى التفكير والاعتقاد، ثم أخيرًا إطار العمل.

ومن أهم الوسائل في هذا الصدد دفعهم إلى تحمل المسؤولية الشخصية شيئًا فشيئًاº لينجزوا بعض أعمالهم وحدهم..

فتخيل معي مثلاً أنك تجتمع مع أبنائك كل عام قبل أسبوع من نهاية العطلة المدرسية لتتفكروا معًا في احتياجات هذا العام، ثم تخبرهم أن سياستك معهم ستتغير لهذا العامº ففيه لن يوقظ أحد الآخرº فكل شخص مسؤول تمامًا عن الاستيقاظ في وقته المناسب المحدد لذلك، ويمكنك فقط توفير الوسائل المعينة على الاستيقاظ (منبه مثلاً)، وإبداء النصح إن أرادوا، ولكنك أبدًا لن تتدخل بشكل شخصي لإيقاظ أحد.. وبالتالي من ستفوته مواعيد المدرسة يجب أن يتحمل نتائج ذلك، ومن سيضيع سيارته أو باصه المدرسي ويبقى في المنزل مثلاً سيمنع من التلفاز واللعب وحتى الخروج!.. وذلك ليس عقابًا، ولكن لأن هذا هو وقت المدرسة!!... وهكذا..

 

فما الذي تظنه سيحدث بعد شهر، أو قل شهرين إن استطعت أنت أن تصبر كل هذا الوقت دون أن ترجع لعادتك القديمة بطبيعة الحال؟!.. سيتحول أبناؤك تدريجيًا من معتمدين عليك بالكلية لأشخاص حقيقيين يعتمدون على أنفسهم (على الأقل في هذا الجانب)º وهو ما يوفر عليك الكثير من الوقت والجهد، ويزرع فيهم بذور الاعتماد على الذات، وبذور المسؤولية، والتي ستنمو وتكبر معهم كلما تعهدتها أنت بالرعاية والدعم.

وبالرغم من أن الطريقة السابقة يمكن أن تبدو غير متعبة في الأعمال الشخصية: من مذاكرة، إلى نظافة، إلى تنظيم، وغيرها، وقد يبدو الطريق إليها سهلاً ميسورًا فالكثيرون منا يفشلون في أدائها لأنهم (كما قلت) لا يثقون في طريقة معالجة أبنائهم للمسائلº فيدخلون في التفاصيل!º وهو ما ينتقص من قيمة الأسلوب، ويؤدي به إلى الفشل، ويحوله من أسلوب لتفويض المسؤولية (وهو ما تسعى له) إلى مجموعة من الأوامر، والتحكمات التي تؤدي إلى النفور.

وأسوء الأمثلة لهذا التفويض يمكن أن نراها إذا أراد أحدهم من ابنه أن ينظف السيارةº فهو في الغالب سيقف ليلقى الأوامر من (أحضر قطعة، إفعل،...، وما إلى ذلك) في حين أنه يمكن أن يضحي مرة أو مرتين تكون فيهما السيارة غير نظيفة تمامًا!º ليعلّم ابنه كيف يقوم بذلك وحده!º أي كيف يبدع الطرق التي يؤدي بها العمل الصحيح!..

وذلك لا يتم بترك الحبل على الغارب كما يفعل البعض الآخر، ولكن بالاعتماد في التفويض على النتائج، وليس على الكيفيات.

وإذا أردنا أن نتحدث على تفويض المسؤولية فسنتكلم أولاً عن الرافد الأول له وهو الاختبار في التفويض!: فلابد من تقسيم مهام البيت في أول العام كما في الاستيقاظ والتي سيقوم الأب والأم بمعظمها على الأقل في بادئ الأمر! وأن يقوم الابن باختيار هذه المهمة وحده.. وهي خطوة قد يظن البعض أنها ليست ذات أهمية بالرغم من أنها الركيزة الأولى والأهم للشعور بالمسؤوليةº وهي هنا مسؤولية الاختيار، ثم بعد ذلك يأتي دور الاعتماد على النتائج بدل الكيفيات والذي يتم على مرحلتين: الأولى تحديد النتيجة المطلوبة، والثانية تحديد زمن تقديم هذه النتيجة أو ما يسمى بالسقف الزمني.. فمثلاً يمكن أن يعرض الأب لابنه السيارة بعد إحضارها من المغسلة مباشرة كمقياس، ويحاولا معًا أن يصلا إلى معايير يقاس عليها العمل فيما بعد!، فإن توصلا إلى أن المعايير هي النظافة والتنظيم والرائحة الجميلة، وأن الوقت المناسب هو السبت صباحًا بعد أن يكون التنظيف الجمعة تكون أنت وابنك قد وصلتما إلى الركائز الأساسية، ولا يبقى بعد ذلك إلا الصبر والالتزام منك ومنه بالمواعيد والمعايير وخصوصًا عدم تدخلك في الكيفيات بشكل مباشر.. ويمكنك طبعًا أن تقدم النصح والمشورة له، ولكن ليس بالإلزامº فيمكن مثلاً أن تقول له: إنك مستشار له في التنظيفº ويمكنه أن يسألك عن كل أمر لا يعرفه عن كيفية التنظيف، وله أي للابن أولاً وأخيرًا تقرير واختيار الطرق المُعِينة على التنفيذ.

أما متى سيحدث التغيير المطلوب فهو ما أخشى على الآباء منهº فالصبر على النتائج، والإحساس بأن ما سيحصل عليه يستحق كل هذا العناءº وملاحظة التغييرات الطفيفة التي تطرأ على تصرفات الأبناء بدعمها وتقويتها هو التحدي الحقيقيº والذي بإنجازه يؤدي بهم وبيوتهم إلى بر الأمان المنشود.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply