الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
إن الانحراف عن الحق والوقوع في الخطأ لا تعدوا أسبابه الفتن التالية:
1- فتنة الشبهات.
2- فتنة الشهوات.
3- فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة لبس الحق بالباطل وكل انحراف أو ضلال أو خطأ سواء أكان صغيراً أو كبيراً لا يخرج في دوافعه عن الأسباب الثلاثة السابقة:
فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية، فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة هو الجهل بها وعدم العلم بحرمتها، أو اشتبه الأمر عليه فحسبها مكروهة فقط، فهذا الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قلة العلم وضعف البصيرة.
وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها محرمة ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمداً، فإن الدافع لهذه المخالفة إنما هو الشهوة، وضعف النفس، ومثل هذا يقر ويعترف بمخالفته ومجانبته للصواب كما يعترف بذنبه وتقصيره.
أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره، وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية أو تفسير خاطئ أو تأويل متعسف للأدلة ليبرر بها خطأه ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في قرارة نفسه فهذا هو الهوى وهذه هي المغالطة وهذا هو لبس الحق بالباطل، وهو أشنع أنواع الانحراف لأنه مكر وتحايل على شرع الله وخداع للناس.
إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع الله بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية، وهو يعلم أنه متحايل ومخادع، ومثل هؤلاء الملبسين عقوبتهم عند الله - عز وجل - أشد من الذين يقعون في المخالفات الشرعية ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم، ولا يكابرون، ولا يبررون ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من ارتكاب الحيل فقال ولا تركبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل [1].
وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل وحقيقة المغالطة، إذ أن الدافع الحقيقي للانحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا، ولكن عوضاً عن أن يعترف بضعفه هذا وشهوته، ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه يستدل لشهوته هذه بشبهة شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها لا تصلح للاستدلال، لكن لابد من غطاء يغطى به هذا الضعف والهوى، وإذا ذهبنا لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي ينطلق منها الملبس في أغلوطاته نجدها لا تخرج في الغالب عن الأمور التالية:
1- التأويل الفاسد واتباع المتشابه.
2- كتمان الحق وإخفاؤه.
3- تحريف الأدلة عن مواضعها، وعدم إنزالها في مناطاتها، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1- التأويل وإتباع المتشابه:
التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو أشبه بتحريف الكلم، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يرده الله رسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟ [2].
وعند قول الله - عز وجل - في اليهود: ((وَإِنَّ مِنهُم لَفَرِيقاً يَلوُونَ أَلسِنَتَهُم بِالكِتَابِ لِتَحسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِن عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِن عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُم يَعلَمُونَ)) [آل عمران: 78].
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -عن هذه الآية: وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها لياً، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء [3].
2- كتمان الحق وإخفاؤه:
وهو تحريف الأدلة عن مواضعها وتغطية الحق بالباطل، وقد ورد في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النصوص المحذرة من كتمان الحق وإخفائه والمتوعده لفاعليه بالوعيد الشديد من ذلك: قوله - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) [البقرة: 159].
وقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 174].
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها: هذه الآية جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه سواء أكان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك، كما قال - تعالى -: (تَجعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبدُونَهَا وَتُخفُونَ كَثِيراً)) [الأنعام: 91] وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم، ويكتم بعضه لمنفعة لا لإظهار الحق وتأييده [4].
وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق، ألا وهي أن بعض الطيبين قد يقول: ألا يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحياناً عند خوف الفتنة من الجهر به سواء أكان على النفس أو على الناس؟ والجواب أن في ذلك تفصيل كما يلي:
بادئ ذي بدء فإن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق الذي يجب أن يقال، وفي نظري والله أعلم أن بينهما اختلاف، وذلك أن العلم أنواع فمنه ما هو واجب القول به وتعليمه الناس كفروض العين ونحوها ومنه ما هو مستحب ومنه ما يجوز قوله لأناس دون أناس حسب عقولهم وأفهاهم، أما قول الحق الواجب فأرى أنه من العلم الواجب إيصاله للناس، ولا يجوز كتمه لأن في كتمه مفسدة تنافي مقاصد الشرع أو بعضها، وفي إخفائه فتنة للناس وليس العكس، فإذا جاز كتمان العلم أو وجب في ضوء قواعد الشريعة المعتبرة فإنا والحالة هذه نقول: إن الحق في هذا هو كتمان العلم، وإن الجهر بالعلم مع معرفتنا بالمفسدة المترتبة عليه هو الباطل والفتنة وهذا والله أعلم هو الذي عناه الشاطبي - رحمه الله تعالى - في الموافقات حيث قال: ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت أو شخص، ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقاً فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعاً بثه، ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها، فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه [5].
3- تحريف الأدلة عن مواضعها:
وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين السابقتين، إذ لابد لمحرف الأدلة من كتمان الحق، ولابد لمتبع المتشابه من تأويل كلام الله - سبحانه - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - من التأويل الفاسد الذي يؤدي إلى صرف الأدلة عن ما أراد الله بها وأراده رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم وضعها في غير موضعها، وهذا هو نوع من أنواع التحريف للأدلة عن مواضعها، إذ لا يلزم من التحريف أن يكون لفظياً كما فعلت اليهود في التوراة بل إن تحريف المعنى المراد إلى غير المراد هو تحريف للنصوص عن مواضعها أيضاً وهذا ما أشار إليه الشاطبي - رحمه الله تعالى -: وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في الاستدلال: ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً، إلا مع اشتباه يعرض له، أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعاً وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلاً فأتى به المكلف في الجملة أيضاً، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة، كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به.
فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنٍ, لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه [6].
----------------------------------------
[1] تفسير بن كثير، طبعة الشعب ج3 ص492، وجود ابن كثير إسناد هذا احديث.
[2] إعلام الموقعين 4/353.
[3] في ظلال القرآن.
[4] تفسير المنار 2/101.
[5] الموافقات ج4 ص109.
[6] الاعتصام ج1 318.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد