رفعت طفلتي ذات الثلاث سنوات كفها الصغيرة ومدتها أمامي وعلى وجهها ابتسامة رجاء يشوبه خوف وقالت: أمي أعطني بعض اللوز، فأخذت كفها ورفعتها إلى فمي بحنان وقبلتها،
قالت بدلال: أمي فتحت يدي لتضعي بها اللوز لا لتقبليها.قلت: يا حبيبتي أقبلها أولاً ثم أضع بها ما تريدين، وأخذت يدها فقامت معي، فقد مدت كفها إلى وكرهت أن أردها صفراً، ثم قلت لها افتحي كفيك وملأتهما لها باللوز فضحكت بسرور بالغ معبرة عن امتنان عميق جعلني أشعر بعطف شديد ورغبة زائدة في أن أغمرها بكل ما تشتهيه نفسها، ومضت سعيدة بما تحسبه كنزها الثمين.
أما أنا فقد تعلمت درساً من طفلتي الصغيرةº ماذا علينا لو دعونا الله - تعالى -وله المثل الأعلى بطريقة هذه الطفلة؟ ترفع كفها، تبدي حاجتها، تبتسم وقلبها يملؤه رجاء بحنان أمها، وثقة بمكانتها عندها، وظن أنها لن تخيب أملها، وبعض الخوف من أن يكون طلبها في غير محله أو في غير وقته.
لو أن أحدنا حين يدعو ربه، يرفع كفيه يبدي حاجته إلى الله وافتقاره إليه يدعوه بهذا الرجاء وبهذا الخوف ويملأ قلبه بحسن الظن بالله وجميل التوكل عليه فإنه يستوجب بحسن دعائه حنان الله - تعالى -وحسن إجابته له فالله - تعالى -لا يضره ولا ينقص من ملكه أن يعطي عباده كلهم كما في الحديث القدسي إنسهم وجنهم، أن يعطي كل واحد منهم مسألته، ولو أن أحدنا أبدى شكره لله - تعالى -وامتنانه على عطائه كما فعلت هذه الطفلة لكان أجدر بمزيد عطاء الله - تعالى -له وهو - عز وجل - القائل ((لئن شكرتم لأزيدنكم)) (إبراهيم: 7)، فعندما ضحكت لي ابنتي وشكرتني بلسان ألثغ سكرا ًماما أنا أحبك أحسست بضآلة عطائي مقابل شعورها بإنعامي عليها ورغبت أن أعطيها المزيد والله - تعالى -وله المثل الأعلى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويحب الشكور من عباده وقليل ما هم.
وعندما يسيء أحد أبنائي طلب الحاجة فأغضب منه مع حبي له وأمنعه لإساءته، أتذكر عظيم حلم الله - تعالى -على عباده كيف يرزقهم ويعافيهم، ومنهم من ينكر وجوده بالكلية، ومنهم من يتوجه بعبادته إلى غيره - سبحانه -، ومنهم من يؤمن به ويتوجه بالرجاء إلى غيره، ومنهم من يسيء في دعائه أكثر مما يحسن ومنهم من لا يكترث للشكر إذا نال ما تمنى بل يمر كأن لم يدع الله إلى ضر مسه أو نعمة افتقدها بل إن منهم من يستعين بنعم الله - تعالى -على معصيته، فكيف يتسع حلم الله - تعالى -لكل هؤلاء؟!!
لكن طفلتي أشارت ذات مرة إلى أمر بلهفة شديدة، واتبعت أسلوب التقرب والرجاء وحسن الطلب و مع ذلك فقد منعتها ثم ألحت وبكت واستعملت كل الفنون لكني أصررت على رفض طلبها. ذلك أنها طلبت مني سكيناً حادة! وعقلها الصغير يصورها لها لعبة جميلة تود أن تقطع بها الأشياء وتعبث بها بل صور لها جهلها بما يمكن أن تؤول إليه الأمور أن هذه اللعبة الرائعة هي منتهى أملها ومحط حلمها.
وبالنسبة لي فقد حسمت الأمر وأبعدت السكين عن يدها بالرغم من تشبثها بي وتفننها في استدرار عطفي والحصول على موافقتي، لكن إشفاقي عليها كأم يجعلني لا أتركها وأحزانها بل حاولت استرضاءها وغمرها بحنان الأمومة ثم حاولت أن أصرف نظرها عن لعبتها (الغالية) بلفت انتباهها إلى لعبها الأخرى وبيان نواحي جمالها ووعدتها بهدية ثمينة أحضرتها لها فيما بعد تعويضاً عما تظنه خيراً كبيراً فاتها.
فسعدت بها أيما سعادة ومضت تلهو بها، وهذا درس آخر تعلمته من هذه الطفلةº كم من مرة دعوت الله - تعالى -أن يحقق لي رغبة ما ثم حمدته - تعالى -على عدم تحقيقها، أطلبها بإلحاح وهي بالنسبة لي كالسكين بالنسبة لطفلتي، فقد سبق في علم الله أنها لن تعود علي إلا بشر، وقد قال - تعالى -: وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم (البقرة: 216) لكن الله - تعالى -لا يترك سائله بل يعطيه شيئاً أفضل مما طلبه شعر بذلك أم لم يشعر، وقد يعلم بعد ذلك حكمة تأخير إجابته وقد لا يعلم، لكن ثقته بربه وحسن ظنه به يجعلانه يشكره سواء أسرع في إجابته أم أخرها اطمئناناً إلى خيرية خيرة الله - تعالى -له، إذ لا يضره - سبحانه وتعالى - ولا ينقص من ملكه أن يستجيب لكل ما ندعوه به مما لا نعلم مآله: أإلى خير نرتجيه أم إلى شر نتقيه، لكن لطفه - تعالى -بعباده هو السبب في منعه إياهم بعض ما يلحون في طلبه، فله الحمد على ما قدر وله الحمد على ما منع وله الشكر على ما أعطى وله - تعالى -وحده الثناء الحسن.
وبعد، أفلا يحق لي أن أقول: إن هذه الطفلة علمتني؟! فلقد علمتني الكثير!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد