الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، والصلاة والسلام على خير صابر على البلاء، وخير مبلغ عن ربه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فالمرء مبتلىً ما عاش، فالخير الذي يصيبه بلاء ليُنظر أيشكر أم يكفر، والضر الذي يلحق به بلاء ليُنظر أيصبر أم يضجر، والله تعالى يقول: \"وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينَا تُرجَعُونَ\" (الأنبياء: من الآية35). والمؤمن هو الذي يخرج من البلاء رابحاً فائزاً، وكما في الحديث إن أصابته نعماء فشكر فكان خيراً، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن. وأنبياء الله تعالى هم أعظم الناس إيماناً، وأكثرهم عرضة للبلاء، ومنهم كان يوسف - عليه السلام - تعرض لمحن عديدة كان من أشدها محنة المراودة التي انتهت به لمحنة ثانيةº محنة السجن، ففي قوله تعالى: \"وَلَقَد رَاوَدتُهُ عَن نَفسِهِ فَاستَعصَمَ\" (يوسف: من الآية32) تقول امرأة العزيز للنساء: إنها راودته، وقالت: فاستعصم، أي: طلب العصمة من الله - جل وعلا -، وهي وقفة تربوية بابها احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله.
والخلاصة هي أن السجن كان منحة ليوسف - عليه السلام - أولاًº لأنه خلصه من بلاء المراودة والفتنة، وثانياًº لأنه فتح له باباً عظيماً من أبواب الدعوة، ثم مُكِّن له في الأرض.
وما أحوجنا إلى الاستعصام بالله في الشدائد \"أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السٌّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفَاءَ الأَرضِ\" (النمل: 62) إذا أصبت يا أخا الإسلام بشدة فالجأ إلى الكريم، وقل: \"إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِينُ\" (الفاتحة: 5). الجأ إلى الله - جل وعلا - كما لجأ إليه الأنبياء، ولجأ إليه الصالحون.
ثم قالت: \"وَلَئِن لَم يَفعَل مَا آمُرُهُ لَيُسجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ\" (يوسف: من الآية32). وهنا لطيفة ذكرها بعض المفسرين، وهي أن امرأة العزيز قالت في موضوع السجن، قالت: \"لَيُسجَنَنَّ\"، لكن في الثانية قالت: ليكونا، ما قالت ليكونن. لماذا؟ ما الفرق؟ قال العلماء: إن السجن القرار بيدها أو بيد زوجها، تستطيع أن تأخذه كما حدث، وضعوه في السجن.
أما الصغار فهو قضية معنوية لا تستطيع هي أن تجعله صاغرا أو غيرها، ولذلك جاءت على استحياء، وليكوناً مخففة، وتحقق السجنº لأنها تملك القرار، وزوجها يملك القرار، لكن هل تحقق الصغار؟ كلا وحاشا.
فمنذ دخول يوسف - عليه السلام - السجن وإلى يوم الناس هذا يذكر الكل سجنه في مناقبه، فكان سجنه سبب علو له وفخار ومجد، بل أصبح يواسى به الناس.
وهذا يدلك على أن السجن إذا لم يكن لأمر يخل بالشرع، إذا لم يكن بسبب ارتكاب معصية ومحرم، فلن يكون صاحبه من الصاغرين، فقد يسجن المصلحون، وقد يسجن من يخدم أمته، ولكن لا يناله الصغار، فصاحب القرار يملك أن يسجنه لكنه لا يملك أن يجعله من الصاغرين، وكم من سجن كان سبباً لعلو صاحبه.
إذا ذكر الإمام أحمد - رحمه الله - تذكرنا سجنه وثباته فيه، فكان شرفاً له وعزة وقوة.
وإذا ذكرنا شيخ الإسلام ابن تيمية تذكرنا سجنه ثلاث مرات، بل تذكرنا موتته في سجنه وهو يقرأ \"إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ, وَنَهَرٍ, فِي مَقعَدِ صِدقٍ, عِندَ مَلِيكٍ, مُقتَدِرٍ,\" (القمر: 54، 55)، ولذلك قال: \"ما ينقم مني أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنا سجني خلوة\".
وهذا المعنى يغيب عن بعض النفوس فتتنازل وتتساهل وعندها يكون السجن صغاراً، وكذلك إذا كان السجن بسبب ارتكاب معصية أو محرم.
أما إذا كان بسبب التزامه بدين الله واستمساكه بحبله فهو شرف وعز وفخر للشخص في حياته وبعد مماته، وها نحن نرى مصداق ذلك في حياتنا، نراه مع من يسجن من العلماء ومن الدعاة ومن المصلحين، شرف وعز لهم في الدنيا في السجن وبعد خروجهم من السجن، وهو بإذن الله أجر ورفعة في الآخرة.
وعوداً على بدء لقد اجتمع هؤلاء النسوة وقرروا قرارهم الذي أحدثه الفراغ فسوله الشيطان وأمضاه ضعف التربية، ولو اشتغلن بطاعة الله والتزمن منهجه، لابتعدن عن مثل هذه الفواحش الممقوتة، ولكنها حال البشرية يوم تنبذ منهج الله، وتسبح بحمد الجبابرة.
ولما كان الأمر كذلك قال يوسف - عليه السلام -: \"رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ مِمَّا يَدعُونَنِي إِلَيهِ وَإِلَّا تَصرِف عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِنَ الجَاهِلِينَ\" (يوسف: 33)، وكما فَرَّ في السابق من امرأة العزيز واستبق الباب، ها هو الآن يفر إلى ربه، باختياره السجن، لقد التجأ إلى الله - جل وعلا - وتضرع بين يديه، وقال: \"رَبِّ\" تسمع في هذه الكلمة أثر الأسى والاستعطاف وطلب الرحمة، ممن رباه بالنعم وامتن عليه بجزيل المنن \"رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ مِمَّا يَدعُونَنِي إِلَيهِ وَإِلَّا تَصرِف عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِنَ الجَاهِلِينَ\"(يوسف: من الآية33). أي: أمِل إليهن.
وقد قال بعض المفسرين - رحمهم الله - ما حاصله أن يوسف قد أخطأ هنا، عندما قال: \"رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ\" ولو أنه قال: \"رب إن عافيتك أوسع لي\" لم يقع له السجن، وهذا القول خطأ بين، فيوسف لم يطلب السجن ولم يتمنّه، بل إن قوله: \"رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ\" متعلق بخيارين وضعا أمامه، فإذا لم يكن إلا السجن أو فعل الفاحشة فالسجن أحب إليّ، وأفعل التفضيل هنا لايقتضي حب المفضل، وإلاّ للزم القول بأن الفاحشة كانت حبيبة إليه غير أن السجن أحب، بل غايته أن السجن أفضل وأقرب إلى النفس من الوقوع في الفاحشة، وتلك منزلة رفيعة لايصل إليها كل إنسان، وهذا معنى بليغ ودقيق غفل عنه البعض.
وهنا أنبه إلى أن الأصل أن يفر المرء بنفسه من الفتن، فالمؤمن لا يطلب البلاء، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا\" وهذا ما صنعه يوسف - عليه السلام -، فيوسف لم يطلب السجن ولكن المرأة وضعته في حصار إما أن يستجيب لها أو يسجن هكذا، قالت: \"وَلَئِن لَم يَفعَل مَا آمُرُهُ لَيُسجَنَنَّ\" (يوسف: من الآية32) فقال: \"رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ\".
وهذا أمر معروف ومشاهد فقد تجد إنساناً يقول لآخر إما أن تفعل هذا أو أضربك، فيقول الضرب أحب إلي، ولا يعني هذا أنه يحب الضرب.
فالذين قالوا: إن يوسف لما قال: \"رَبِّ السِّجنُ أَحَبٌّ إِلَيَّ\" ابتلاه اللهº لأنه طلب السجن أخطؤوا وأساؤوا فهم الآية، ولم يتأملوا سياقهاالدال على أن يوسف - عليه السلام - لا يريد السجن، فرحم الله أولئك المفسرين.
ومن جملة التجاء يوسف لربه دعاؤه بقوله: \"وَإِلَّا تَصرِف عَنِّي كَيدَهُنَّ أَصبُ إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِنَ الجَاهِلِينَ\" (يوسف: من الآية33) فأكرمه الله واستجاب دعوته فأنقذه من كيدهن، وقال: \"فَاستَجَابَ لَهُ رَبٌّهُ فَصَرَفَ عَنهُ كَيدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ\" (يوسف: 34).
حقاً \"إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ\" وما أحوجنا إلى الإيمان بأسماء الله وصفاته، فكلما ازداد إيمان العبد ومعرفته بأسماء الله وصفاته ازدد لجوءاً إليه، وهذا يوسف - عليه السلام - عرف وعلم وآمن بأن الله سميع عليم، فاستحضر ذلك والتجأ إليه فأنقذه الله - جل وعلا -.
وهكذا من أثبت أسماء الله وصفاته كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلم معانيها وما تدل عليه ومايلزم من ذلك، لم يغتر كما اغتر الجاهل بالله.
والخلاصة هي أن السجن كان منحة ليوسف - عليه السلام - أولاًº لأنه خلصه من بلاء المراودة والفتنة، وثانياًº لأنه فتح له باباً عظيماً من أبواب الدعوة، ثم مُكِّن له في الأرض، وصدق الله - جل وعلا -: \"وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيرٌ لَكُم\" (البقرة: من الآية216)، \"فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئاً وَيَجعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً\" (النساء: من الآية19). قال - صلى الله عليه وسلم -: «جبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير له، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»، فالحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد