تقديم:
الكلمة الحرة الشجاعة مطلوبة من الداعية لكي يجهر بالحق ليفضح المجرمين ولتستبين سبيلهم، وهذه الكلمة مطلوبة أكثر من الداعية لينصح بها المؤمنين لتستقيم طريقهم، فلا أعجز من قادر على نقد الغير وقاعد عن تقويم النفس. ونحن نعتبر أنفسنا مع المسلمين أمة واحدة، فنحن منهم وهم منا، وحين نقوِّم أنفسنا فنحن ننصح لهم، وعندما ننقدهم فنحن ننصح لأنفسنا، لأننا وإياهم ذات واحدة، وهذه الكلمات في نقد تلك الذات نحاول في كل حلقة منها أن نتعرض لظاهرة من الظواهر غير المرضية في واقعنا الإسلامي، تلك الظواهر التي تمثل في مجموعها عوائق مانعة من تأهيل الأمة المسلمة للنصر والتمكين والعزة، فمهما قلنا عن مكائد الأعداء ومكرهم وشرهم، فإن الداء الأصلي فينا نحن، والمصائب المتوالية علينا من صنعنا نحن، وإلا لما سلطوا علينا ولا تحكموا فينا. يقول - تعالى -: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير [آل عمران/ 165].
1- الفتنة بالأشخاص:
تتضح أمامنا هذه الظاهرة، حينما نرى من يرفعون إنساناً إلى آفاق عالية من التقديس المحفوف بهالات التعظيم، الذي لا يسمح للنفس أو للغير بالجراءة على نقده أو مخالفته. والمفتونون يصنعون على أيديهم بذلك إنساناً مغروراً في غالب الأحوال، لأن الإنسان خلق ضعيفاً، وقل من يفلح من الناس في معرفة قدر نفسه وسط تلك الظروف، ولهذا قيل: \"رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه\" فإنه بهذه المعرفة يرحم نفسه ويرحم غيره ويعرض نفسه لرحمة الله. أما إذا أخفق في معرفة قدر النفس، فإنه يضرها ويضرٌّ بها.
إن الإنسان المفتون بإنسان آخر يراه عظيماًº كثيراً ما يفتئت على الحقائق ويتعدى في الموازين بسبب عواطفه غير المنضبطة، فنرى حبه كلَفَاً، وبغضه تلَفَاً، يرفع من يحبه إلى عليين لو استطاع، ويخسف الأرض بمن يبغضه لو قدر، إذا أحب شخصاً فإنه يلصق نفسه به وينسب نفسه إليه، يتكلم بلسانه، ويرى بعيونه، ويتحرك ككيانه، لا يرى الصواب إلا في قوله، ولا يرى في قوله إلا الصواب، وإذا فعل فنعم الفعل، وإذا بدا منه خطأ ظاهر، تظاهر بالغفلة عنه أو بالغ في التماس المعاذير واستصدار البراءة له. والمفتون دائماً يشيع آراء متبوعه عجرها وبجرها، غثها وسمينها، وينصب من نفسه درعاً منيعاً تصدر النقد عنه وترد النظر في أمره. فتتهيأ بذلك أمام المتبوع - إلا من رحم الله - أسباب الفتنة، فيصبح أحد المفتونين بهذا نفسه، وكثيراً ما يتحول بعد ذلك - إن لم يتداركه الله برحمته - إلى إنسان متكبر لا يرى إلا ما ترى نفسه ولا يقبل إلا ما أشرب من هواه، لا لشيء إلا لأنه وجد من يصنع منه صورة واقعية لأسطورة خيالية، لا تستطيع أن تخطئ في اجتهاد ولو أرادت، ولا تقدر على مخالفة الصواب ولو قصدت. وقد يتمادى المتبوع المفتون فيتمنى لو أن كل المسلمين أصبحوا مثل أتباعه المفتونين، بل قد يصبح مستهجناً ومستغرباً أحوال من يتعاملون معه على أنه رجل كالرجال يصيب ويخطئ، ويزل ويستقيم، فيتخذ منهم موقفاً عدائياً لظنه أن موقفهم منه هو موقف عدائي.
إن الإنسان السوي لا يسمح لنفسه بأن يُفتن بأحد، ولا يسمح لأحد أن يفتن به، لأنه يدرك أن كل ابن آدم خطاء، وأن عهود العصمة والنبوة قد مضت لأهلها. أما الإعجاب ببشر كثير الخطايا إلى حد الفتنة به أو فتنته، فإن هذا تهمة للعقل وسُبة للعاطفة.
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسمح لأحد من أصحابه أن يغلو فيه أو يرفعه عن درجة البشرية فقال: \"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله\" [1]، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يتواضع وينزل دون منزلته هضماً للنفس، فيرفض أن يفضله أحد أمامه على من هو فوقه في الحقيقة، فمعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء والرسل إجماعاً، ومع ذلك كان يقول: \"لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى\". [2]
وقال مزكياً موسى - عليه السلام -: \"لا تفضلوا بين أولياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدريº أحوسب بصعقه يوم الطور، أم بعث قبلي\". [3]
ولما دخل عليه رجل ترعد فرائصه من شدة الخوف والفزع ظاناً أنه ملك كالملوك، قال له: \"هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد\". [4] يعني اللحم المجفف في الشمس.
إننا لا ندعو إلى الفوضى في التعامل، بحيث يتطاول الصغار على الكبار، أو يتجرأ الجهال على العلماء، لا، ففرق بين معرفة أقدار الرجال وبين الفتنة بهم، فكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن الخطأ البين أن يحمَّل الإنسان نفسه أو يحمل الناس تبعة إضفاء العصمة على تصرفات شخص أو هيئة أو جماعة، بحيث لا ينتظر منها ولا يتوقع لها إلا أن تقول وتفعل الحق والصواب في كل حال.
لقد تحملت الدعوة الكثير من جراء التعظيم الزائد للأشخاص، سواء كانوا زعماء أو علماء أو قواد أو رواد أو حفاظ أو وعاظ، حتى إذا أخطأ أحدهم وجد الأتباع أن من الأسهل نسبة خطئهم إلى الدعوة نفسها فيبحثون عن تخريج للفتوى أو الموقف أو التصرف من نصوص الدين، حتى تظل صورة المتبوع في وضعها الذي أرادوا، لا يخطئ... وإذا أخطأ فنحن لسنا أولى منه بالصواب، أوليس من حقنا أن ننبهه للصواب! إن هذا اللون من السلوك، هو نوع من الفتنة المشار إليها في قوله - تعالى -: ((وجعلنا بعضكم لبعض فتنة.. أتصبرون، وكان ربك بصيراً)) [الفرقان/] فقد جعل - سبحانه - بعض عبيده فتنة لبعض - كما قال الشوكاني[5] - فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير ونقول: والعالم فتنة للجاهل، أي اختبار له وامتحان، ولا يقع في الفتنة على النحو الذي أسلفنا إلا الجاهلون نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويعلمنا ما ينفعنا...
----------------------------------------
[1] - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء (60) باب (48) ح (3445) فتح الباري 6/551
[2] - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء (60) باب (35) ح (3412) فتح الباري 6/519.
[3] - أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء (60) باب (35) ح (3414) فتح الباري 6/519
[4] - أخرجه ابن ماجة في أبواب الأطعمة، باب القديد ح (1196) 2/313، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة ح (2677) 2/232
[5] - انظر تفسير فتح القدير للشوكاني 4/68
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد