بسم الله الرحمن الرحيم
\"عن عبد الله بن عمرو قال: زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت عليّ جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كنته حتى دخل عليها فقال لها: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال، أو كخير الرجال، أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفا، ولم يعرف لنا فراشا، فأقبل عليّ فغدمني وعضني بلسانه، فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، وفعلت وفعلت ثم انطلق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشكاني فأرسل إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتيته فقال لي: أتصوم النهار؟ فقلت: نعم، قال: وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسّ النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني، قال: اقرأ القرآن في كل شهر قلت: إني أجدني أقوى من ذلك. قال: فاقرأه في كل عشرة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال أحدهما، إما حصين وإما مغيرة، قال: فاقرأه في كل ثلاث، قال: ثم قال: صم في كل شهر ثلاثة أيام، قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: فلم يزل يرفعني حتى قال: صم يوماً وأفطر يوماً، فإنه أفضل الصيام، وهو صيام أخي داود، قال حصين في حديثه: ثم قال: فإن لكل عابدٍ, شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك، قال مجاهد: فكان عبد الله بن عمرو حين ضعُف وكبر يصوم الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض، ليتقوى بذلك، ثم يفطر بعد تلك الأيام، قال: وكان يقرأ في كل حزبه كذلك، يزيد أحياناً، وينقص أحياناً، غير أنه يوفي العدد، إما في سبع، وإما في ثلاث، قال: ثم كان يقول بعد ذلك، لأن أكون قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبٌّ إليّ مما عُدِل به أو عدل لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره\". [رواه الإمام أحمد في المسند، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر رقم الحديث (6477) وروى أصحاب الكتب الستة وغيرهم بعضه بلفظه أو معناه].
معاني الألفاظ:
- جعلت لا أنحاش لها: أي لا أكترث بها.
- الكنة: زوجة الابن.
- لم يفتش لنا كنفاً: الكنف هو الستر والجانب وأرادت بذلك الكناية عن عدم جماعه لها.
- فعدمني وعضني: أي لامني.
- فعضلتها: العضل هو المنع، والمعنى: أنك لم تعاملها معاملة الأزواج لنسائهم.
- الشِرَّة: بكسر الشين وتشديد الراء المفتوحة: النشاط والرغبة.
- الفترة: الانكسار والضعف والسكون بعد الحدة، واللين بعد الشدة.
- مما عُدل به: أي من كل شيء يقابل ذلك من الدنيويات.
أحكام فقهية ودروس مستفادة من الحديث:
1- وجوب الالتزام والتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- النهي عن التبتل والرهبانية.
3- من السنة القصد في العمل والتيسير فيه والمداومة عليه.
4- النهي عن التشدد والغلو، والتحذير من المتنطعين.
5- من السنة أن يتفقد الرجل حال كنته وولده.
6- من الأفضل لمن أراد الزواج الاعتماد على خبرة والده أو من يقوم مقامه من أهل الخير والصلاح، وفي غير الزواج أيضاً.
7- لكل عابد شرّة والأعمال بخواتيمها.
8- الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة والنهي عن تكلف ما لا يطاق.
9- أفضل الصيام صيام داود - عليه السلام -.
10- المدوامة على قراءة القرآن، ولا يفقهه من قرأه في أقل من ثلاث.
11- من جوامع كلمه: \"لكل عابد شرّه ولكل شرّة فترة\".
12- الغلو هو مجاوزة الحد بأن يزاد الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق.
نصوص من الكتاب والسنة في النهي عن التنطع والغلو:
- قال - تعالى -: ((يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله غير الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم)) [النساء/171].
- وقال - تعالى -: ((قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل)) [المائدة/77].
- وقال - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) [المائدة/ 78].
- وقال - تعالى - في بيان دعوة النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - وكون شريعته ناسخة لما في الشرائع السابقة من أحكام فيها تشدد وغلو: ((الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)) [الأعراف/ 157].
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن الدين يسرٌ، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة\". [1]
- عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: \"لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم\". [2]
- عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أحبٌّ إلى الله؟ قال: أدومها وإن قلَّ. وقال: اكلفوا من الأعمال ما تطيقون\". [3]
- عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة، قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: \"مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملٌّ الله حتى تملوا\" وكان أحبَّ الدين إليه مادام عليه صاحبه. [4]
- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: \"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته: \"القط لي حصى\"، فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: \"أمثال هؤلاء فارموا\"، ثم قال: \"أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين\". [5]
- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهطٍ, إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني\". [6]
والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - في هذا الموضوع كثيرة جداً، ومما ورد غير ما ذكرناه آنفاً قوله - تعالى -: ((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر))، ((وما جعل عليكم في الدين من حرج))، ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها))...
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مواصلة الصوم، ونهى عن المبالغة في حبه وتعظيمه وغير ذلك، إذ الشريعة الإسلامية كلها مبنية على السهولة واليسر في ذاتها وأحكامها وشرائعها وفي الأوامر والنواهي، وفي دعوة الخلق إلى قول الحق.
ومن القواعد الفقهية ما يدل على ذلك أيضاً:
فالمشقة تجلب التيسير، والوجوب يتعلق بالاستطاعة فلا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة، والأصل بقاء ما كان على ما كان واليقين لا يزال بالشك في كل شيء من عبادة أو معاملة أو حق من الحقوق، ولا ضرر ولا ضرار، والحدود تدرأ بالشبهات، والقرعة مشروعة إذا تعذر معرفة عين المستحق.
شريعة الإسلام نسخت الأحكام التي فيها تشدد وغلو:
ابتلي أتباع الأديان السابقة بأحكام فيها مشقة وعسر يعجزون عن تحملها والصبر عليها عقوبةً من الله لهم على ما فعلوه من تشدد على أنفسهم، ثم أدى بهم هذا التشدد إلى التحريف والتبديل والمكر والمخادعة والاحتيال.
فمن تشددهم وتنطعهم على سبيل المثال سؤالهم لموسى - عليه السلام - عن لون البقرة التي أمرهم بذبحها وسنها و... و...
ومن تلك الأحكام التي فرضت عليهم وفيها من المشقة والعسر أن من سرق استُرِق، ومنع الطلاق، وترك معاشرة المرأة الحائض، ولا تؤخذ الدية بدلاً من القصاص، وتحريم الشحوم إلا ما حملت ظهور الأنعام أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، وتحريم الغنيمة، وأمور أخرى ابتدعوها لم تثبت بنقل ولا يقبلها عقل.
فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس للعودة إلى ملة إبراهيم - عليه السلام - والتمسك بالحنيفية السمحة التي ارتضاها الله - عز وجل - لعباده، قال - تعالى -: ((وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملَّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)) [الحج/ 78].
فوضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ومن جملة ما حصل من التيسير ورفع الحرج ببركة متابعته - عليه الصلاة والسلام -، أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله، ومن صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الشهر كله، وقيام ليلة القدر خير من قيام ألف شهر، وجعلت السيئة بواحدة والحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، ومن سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه.
أنواع التشدد وما ينتج عنه:
للتشدد نوعان:
الأول: اتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب، وذلك في العبادات.
الثاني: اتخاذ ما ليس بمحرم ومكروه بمنزلة المحرم والمكروه وذلك في الطيبات.
ولهذا التقسيم يُستدل بقول الله - تعالى -: ((ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)).
فالإصر: هو الثقل والشدة وإلى هذا المعنى ترجع الايجابات الشديدة.
والغل: هو الذي يمنع المغلول من الانطلاق وإليه ترجع التحريمات الشديدة، وهذا شأن ما أوجبوه وما حرموه على أنفسهم.
وينتج عن ذلك أن التشدد على النفس يكون سبباً لتشدد آخر يفعله الله - عز وجل - إما بالشرع وإما بالقدر، فالذي يكون بالشرع مثل خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كخوفه لما اجتمعوا لصلاة التراويح، ومثل أن من نذر شيئاً من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر.
والذي يكون بالقدر فكثيراً قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضاً بأسباب تشدد الأمور عليه في الايجاب والتحريم مثل كثير من الموسوسين في الطهارة إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء مشقة مضرة. [7]
طبيعة الغلاة والمتنطعين الترك والانقطاع ومواقفهم ردود أفعال ومكايدة لمخالفيهم:
قال ابن المنير في شرح قوله - عليه الصلاة والسلام -: \"إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه\".
قال: \"في هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع\". [8]
ومن أسباب هذا الانقطاع الذي رآه ابن المنير - رحمه الله - في زمانه أن أفعالهم تخالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وبالتالي لا تنضبط أعمالهم ومواقفهم بشريعة الإسلام المبنية على كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - وما يتفرع عنهما من مصادر شرعية معروفة، إنما تتسم مواقف الغلاة والمتشددين بأنها يحكمها الهوى والكيد والمناقضة لمن يخالفهم أو لا يتفق معهم، ومن تحكمه الأهواء وما تشتهيه الأنفس معرّض في كل لحظة إلى التبديل والتغيير في مواقفه وأعماله، ومؤدى ذلك الترك والانقطاع.
وعلى أية حالº فقد كانت مواقف النصارى وأفعالهم مكايدة اليهود ومناقضتهم، وذلك لما أحدثوه من تحريف وتبديل وظلم وافتراء وعصيان للأنبياء.
فلما قال اليهود عن عيسى - عليه السلام - إنه ساحر مجنون ولد زنا، قال عنه النصارى إنه إله وابن الله، ولما وجدوا اليهود يختتنون تركوا الختان، ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض وملامستها ومخالطتها فأباحوا مجامعتها، ورأوهم يحرمون الخنزير فأباحوه وجعلوه شعار دينهم، ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها، فجوزوا لأساقفتهم وبطارقتهم أن ينسخوا ما شاءوا ويحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا.
ولما جرى أمر التحكيم بين جيش علي وجيش معاوية - رضي الله عنهما - غضب خلق ممن كانوا مع جماعة علي وقالوا: \"لا حكم إلا لله وكفّروا علياً بذلك واعتزلوه وشقوا عصا المسلمين ونصبوا راية الخلاف وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل، وكفروا كل من خالفهم!!! واجتمع ثلاثة نفر من هذه الفئة وتعاقدوا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم!!
فمواقفهم ردود أفعال، والذي يحكمهم ويسيرهم الهوى والمكايدة ومناقضة المخالفين.
وختاماً فلابد من التمسك والالتزام بكتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - فهما سبيل النجاة والفوز، كما أنه يجب اجتناب الشدة والغلو والتحذير من الغلاة المتنطعين فدين الإسلام دين اليسر والسهولة والبشارة، ورسول الله - عليه الصلاة والسلام - نهى عن الشدة والمشقة والعسر، ووضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأحب العمل إلى الله أدومه فلا بد من العناية والاهتمام بعواقب الأمور، لأن اهتمام المسلم بالآخرة أكثر من اهتمامه بالدنيا ((قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى))...
----------------------------------------
[1] - رواه البخاري، كتاب الإيمان باب (الدين يسر) [الفتح 1/93]
[2] - رواه أبو داود، كتاب الأدب (باب في الحسد)
[3] - رواه البخاري، كتاب الإيمان (باب أحب الدين إلى الله أدومه) [الفتح 1/93]
[4] - رواه البخاري، كتاب الإيمان (باب أحب الدين إلى الله أدومه) [الفتح 1/101]
[5] - رواه أحمد في مسند عبد الله بن عباس، والنسائي في كتاب المناسك (باب التقاط الحصى)
[6] - رواه البخاري، كتاب النكاح (باب الترغيب في النكاح) [الفتح 9/104]
[7] - مختصر من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/283، 284، تحقيق الدكتور ناصر عبد الكريم العقل
[8] - نقلا عن فتح الباري 1/94.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد