الأمانة والقوة وسلطان الأمة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الأمير أجير:

\"دخل أبو مسلم [الخولاني] على معاويةبن أبي سفيان - رضي الله عنه- فقام بين السماطين فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: مه، فقال [معاوية]: دعوه فهو أعرف بما يقول، وعليك السلام يا أبا مسلم. ثم وعظه وحثه على العدل\" (1).

ولم يكن ذلك التابعي اليماني الزاهد - وهو يستعمل لفظ الأجير- متلاعبا بألفاظه أو متطاولا على قائده، وإنما كان منطلقا من التصور الإسلامي الحق لمـنـزلة الحاكم وعلاقته بالأمة: إنها علاقة الأجير برب العمل. فالأمة هي رب العمل والحاكم أجير لها أنابته لأداء وظيفة الحكم لقاء أجر مادي معلوم، ومكانة معنوية مشروطة، والتزمت معه بعقد اختياري طرفاه: الأمانة والنصح من الحاكم، والطاعة والنصرة من المحكوم.

 

إن خير من استأجرت..

ولما كان الحاكم أجيرا للأمة، كان من المطلوب أن يتصف بصفتي الأمانة والقوة اللتين امتدحهما القرآن الكريم في الأجير على لسان ابنة شعيب: \"إن خير من استأجرت القوي الأمين\" (2). أما الأمانة فهي تشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم، وتكون وازعا له من نفسه يمنعه من أن يستأثر بالمال والسلطان، أو يؤثر بهما ذويه، أو يسيء استعمالهما أيَ نوع من الإساءة كان. وأما القوة فهي تشمل الخبرات السياسية والعسكرية والفنية التي تمكنه من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأكمل والأصلح للأمة، وهي التي عبر عنها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -بـ\"الفقه\" في قوله: \"من سوده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم \" (3).

 

اجتماع الأمانة والقوة:

وقد اشتهر عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باجتماع الأمانة والقوة فيهم، منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنه - الذي سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - \"أمين هذه الأمة\"، ووصفه بالأمانة والقوة وهو يوليه صدقات بعض القبائل. ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: \"ففي مسند أحمد بسند جيد عن علي: قيل يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة. وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم. وإن تؤمروا عليا -وما أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم \" (4). ومنهم عتاب بن أسيد الأموي - رضي الله عنه -الذي ورد فيه من حديث أنس \"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكان شديدا على المريب لينا على المؤمنين…\" (5)

 

. افتراق الأمانة والقوة:

لكن الأمانة والقوة قلما تجتمعان في الشخص الواحد، وإذا اجتمعتا فقل أن يكون ذلك بتوازن، وهنا لب الإشكال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى -: \"اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -يقول: \"أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة\"…ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم مع أنه أحيانا يعمل ما ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى أنه مرة رفع يديه إلى السماء، وقال: \"اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد\"…وكان أبو ذر - رضي الله عنه - أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"يا أبا ذر إني أراك ضعيفا …لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم\"\" (6). ففي هذا النص التحليلي يورد ابن تيمية مثالين على عدم التوازن في الأمانة والقوة لدى اثنين من الأكابر: المثال الأول هو خالد بن الوليد - رضي الله عنه - الذي غلبت عليه صفة القوة، فأحسن الذهبي في وصفه بأنه \"سيف الله - تعالى -، وفارس الإسلام، وليث المشاهد\" (7)، لكن قوته الطاغية على أمانته هي التي جعلت النبي - صلى الله عليه وسلم - يستنكر قتله قوما أظهروا الإسلام، ويتبرأ إلى الله من فعله. وهي التي جعلت عمر يستنكر قتله مالك بن نويرة، ثم يعزله فيما بعد ويقول: \"إن في سيف خالد رهقا\" (8).

يعلل ابن تيمية ذلك بقوله: \"لم يكن خالد معاندا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمـنـزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية. ويقال إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، وكان ذلك مما حركه على قتالهم\" (9).

والمثال الثاني هو أبو ذر - رضي الله عنه -، وقد كان إماما في الزهد والورع وصدق اللهجة ونقاء السريرة، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبى أن يوليه إمارة، وعلل ذلك بضعف أبي ذر الذي يفقده عنصرا من عناصر الكفاءة السياسية بغض النظر عن ورعه الشخصي.

ويورد ابن تيمية مثالا آخر على عدم التوازن بين الأمانة والقوة، هو ذو النورين أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه -الذي طغت أمانته على قوته فآنس فيه بعض الطامعين ضعفا. قال ابن تيمية: \".. وأما عثمان - رضي الله عنه -فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحِلم وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطُمِع فيه بعض الطمع، وتوسعوا في الدنيا، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا\" (10)

 

المواءمة والتكامل:

إن عدم اجتماع الأمانة والقوة في أغلب الناس يثير إشكالا عمليا يمكن التخفيف منه من خلال مبدأي المواءمة والتكامل. أما المواءمة فهي إدراك لملابسات المنصب، وصلة ذلك بأشخاص معينين، بغض النظر عن خبراتهم الشخصية. وهو درس يمكن استنباطه من تأمير النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد على جيش لقتال الروم، رغم أن أسامة - رضي الله عنه -لم يكن في مستوى كبار المهاجرين والأنصار الموجودين في جيشه من حيث التمرس بالحرب والخبرة بالسياسة. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - \"أرسله إلى ناحية العدو الذين قتلوا أباه، لما رآه في ذلك من المصلحة\" (11) مصلحة وجود دافع زائد لديه، ينضاف إلى الدافع العام الكامن في نفس كل مؤمن.

ويبدو أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتطلع إلى هذا الأمر منذ مدة: \"قال قيس بن حازم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد [في مؤتة] قال: \"فهلا إلى رجل قتل أبوه\" يعني أسامة\" (12).

أما التكامل فهو أن يكون الحاكم صادقا مع الله ومع الأمة، مدركا لجوانب القوة والضعف في نفسه، فيبحث في رعيته عمن يستكمل به نقصه، ويتدارك به قصوره، حتى ولو كان الحاكم من أهل الأمانة والقوةº لأن التوازن المطلق كمال مطلق، وهو غير متاح للبشر. يشرح شيخ الإسلام ذلك في تحليله لتولية الصديق خالدا وتولية الفاروق أبا عبيدة، فيقول: \"إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا، وكان أبو بكر لينا وخالد شديدا على الكفار، فولى اللين الشديد وولى الشديد اللين ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله - تعالى - في حقه\" (13).

وإذا آنس الحاكم من نفسه قوة، أمكنه تولية كل من لديه خبرة مهما يكن مستوى الأمانة عنده ضعيفا، تأسيا بسنة عمر، إذ \"كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله\" (14).

إن منطق المواءمة والتكامل هذا هو الذي دفع الصديق إلى التشبث بخالد في وقت ارتداد العرب ورميهم للإسلام عن قوس واحدة، رغم أنه كانت لدى الصديق مآخذ على خالد منها سيفه \"المرهق\"، وتصرفه في المال، ومخالفته للخليفة، إذ \"كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حسابا، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبو بكر\"(15). لكن بسالة الرجل وتجربته الحربية لم تكن لتسمح للصديق بعزله وهو يواجه مأزق الردة، إدراكا منه لرجحان الاعتبارات العسكرية على غيرها يومذاك. ولهذا \"حين أشار عليه عمر بعزله قال أبو بكر: فمن يُجزئ عني جزاء خالد؟\" (16).

 

سلطان الأمة يعصم:

إذا كانت دراسة حياة الرعيل الأول تبين الضعف البشري والنقص الفطري من حيث صعوبة اجتماع الأمانة والقوة، واستحالة اجتماعهما بتوازن مطلق، وكان الواقع الحسي يشهد ببعد حكامنا عن مستوى ذلك الرعيل في الصدق مع الله ومع الأمة، فما هو الحل العملي لذلك الإشكال المتمثل في عدم اجتماع الأمانة والقوة غالبا؟؟

لقد قدم الإسلام أروع حل عملي لذلك، وهو سلطان الأمة الذي يتجسد في مبدأين: الشورى في بناء السلطة، والمشاورة في تسييرها، فبالشورى تختار الأمة أقرب الناس اتصافا بصفتي الأمانة والقوة، ولا يفرض عليها خيار مسبق بالوراثة أو بالغلبة. وبالمشاورة تستحث الأمة الحاكم الضعيف، وتلجم الحاكم القوي، وتحتفظ بحقها في عزل أي منهما واستبداله بالأصلح.

ويوم يتحقق هذان المبدآن في حياة المسلمين سيكون ذلك برهانا على أنهم أسلموا أمرهم لله، ونبذوا المعايير السياسية المستمدة من الجاهلية الأولى. تلك الجاهلية التي كان شاعرها يفخر بعدم النظر في العواقب، ونبذ المشاورة، والاحتكام إلى منطق القوة:

\"إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمـه ** ونكَّب عن ذكر العواقب جانبـا

ولم يستشر في أمره غير نفسـه ** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا\" (17).

 

________________

الهوامش:

(1)- الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/13

(2)- سورة القصص، الآية 26

(3)- سنن الدارمي

(4)- ابن حجر: الإصابة 2/503

(5)- رواه مالك في الموطأ

(6)- ابن تيمية: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 16-17. وحديث:\"اللهم إني أبرأ إليك..\" رواه البخاري وحديث:\"يا أبا ذر …\" رواه مسلم.

(7)-الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/369

(8)- ابن الجوزي: المنتظم

(9)- ابن تيمية: منهاج السنة 4/487

(10)- نفس المصدر 7/452

(11)- نفس المصدر 4/279

(12)- الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/502

(13)- ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/455

(14)- ابن تيمية: الخلافة والملك ص 36

(15)- ابن حجر: الإصابة 1/414

(16)- نفس المصدر والصفحة

(17)- أورد البيتين أبو حيان عند تفسيره آية المشاورة. انظر: البحر المحيط 3/410

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply