التعامل مع الخطأ


 

بسم الله الرحمن الرحيم

روى البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَالزٌّبَيرَ وَالمِقدَادَ، فَقَالَ: ((انطَلِقُوا حَتَّى تَأتُوا رَوضَةَ خَاخٍ,، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوا مِنهَا)).قَالَ: فَانطَلَقنَا تَعَادَى بِنَا خَيلُنَا حَتَّى أَتَينَا الرَّوضَةَ، فَإِذَا نَحنُ بِالظَّعِينَةِ، قُلنَا لَهَا: أَخرِجِي الكِتَابَ. قَالَت: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَقُلنَا: لَتُخرِجِنَّ الكِتَابَ أَو لَنُلقِيَنَّ الثِّيَابَ.قَالَ: فَأَخرَجَتهُ مِن عِقَاصِهَا، فَأَتَينَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا فِيهِ مِن حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلتَعَةَ إِلَى نَاسٍ, بِمَكَّةَ مِنَ المُشرِكِينَ يُخبِرُهُم بِبَعضِ أَمرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟)). قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعجَل عَلَيَّ، إِنِّي كُنتُ امرَأً مُلصَقًا فِي قُرَيشٍ,، يَقُولُ: كُنتُ حَلِيفًا وَلَم أَكُن مِن أَنفُسِهَا، وَكَانَ مَن مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ مَن لَهُم قَرَابَاتٌ يَحمُونَ أَهلِيهِم وَأَموَالَهُم، فَأَحبَبتُ إِذ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِم أَن أَتَّخِذَ عِندَهُم يَدًا يَحمُونَ قَرَابَتِي، وَلَم أَفعَلهُ ارتِدَادًا عَن دِينِي، وَلاَ رِضًا بِالكُفرِ بَعدَ الإِسلاَم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَمَا إِنَّهُ قَد صَدَقَكُم)). فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعنِي أَضرِب عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ. فَقَالَ: ((إِنَّهُ قَد شَهِدَ بَدرًا، وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَن شَهِدَ بَدرًا فَقَالَ: اعمَلُوا مَا شِئتُم، فَقَد غَفَرتُ لَكُم)). فَأَنزَلَ اللَّهُ السٌّورَةَ: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ} إِلَى قَولِهِ: {فَقَد ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.

 

عَن عَلِيٍّ, - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا مَرثَدٍ, الغَنَوِيَّ وَالزٌّبَيرَ بنَ العَوَّامِ، وَكُلٌّنَا فَارِسٌ، قَالَ: ((انطَلِقُوا حَتَّى تَأتُوا رَوضَةَ خَاخٍ,، فَإِنَّ بِهَا امرَأَةً مِنَ المُشرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِن حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلتَعَةَ إِلَى المُشرِكِينَ)). فَأَدرَكنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ, لَهَا حَيثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلنَا: الكِتَابُ. فَقَالَت: مَا مَعَنَا كِتَابٌ. فَأَنَخنَاهَا فَالتَمَسنَا، فَلَم نَرَ كِتَابًا. فَقُلنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، لَتُخرِجِنَّ الكِتَابَ أَو لَنُجَرِّدَنَّكِ. فَلَمَّا رَأَتِ الجِدَّ أَهوَت إِلَى حُجزَتِهَا وَهِيَ مُحتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ,، فَأَخرَجَتهُ. فَانطَلَقنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَد خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤمِنِينَ، فَدَعنِي فَلأَضرِب عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعتَ؟)). قَالَ حَاطِبٌ: وَاللَّهِ مَا بِي أَن لاَ أَكُونَ مُؤمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَرَدتُ أَن يَكُونَ لِي عِندَ القَومِ يَدٌ يَدفَعُ اللَّهُ بِهَا عَن أَهلِي وَمَالِي، وَلَيسَ أَحَدٌ مِن أَصحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِن عَشِيرَتِهِ مَن يَدفَعُ اللَّهُ بِهِ عَن أَهلِهِ وَمَالِهِ. فَقَالَ النَّبِيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: ((صَدَقَ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيرًا)). فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَد خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤمِنِينَ، فَدَعنِي فَلأَضرِب عُنُقَهُ. فَقَالَ: ((أَلَيسَ مِن أَهلِ بَدرٍ,؟))، فَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهلِ بَدرٍ, فَقَالَ: اعمَلُوا مَا شِئتُم فَقَد وَجَبَت لَكُمُ الجَنَّةُ، أَو فَقَد غَفَرتُ لَكُم)). فَدَمَعَت عَينَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ.

 

وقفات مع قصة حاطب:

1. فيها دلالة عظيمة من دلائل النبوة حيث أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن المرأة وموقعها والخطاب الذي معها فوجدها الصحابة - رضي الله عنهم -كما أخبر.

 

2. يقين الصحابة بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءت محادثتهم للمرأة بأسلوب الأمر الجازم: ((أخرجي الكتاب))، ولم يقولوا لها: هل معك كتاب؟ ثم عقبوا على هذا بالتهديد للمرأة بتجريدها للتفتيش عن الكتاب.

 

3. شأن العورة عند العرب فضلا عن أهل الإسلام، فالمرأة لما رأت حزمهم وجزمهم على تجريدها إن لم تخرج الكتاب خشيت على عورتها فأخرجت الكتاب.

 

4. لقد رسم النبي - صلى الله عليه وسلم - منهجا عادلا وحكيما في معاملة الناس عند وقوعهم بالخطأ والذنب تمثل بالنقاط التالية:

التثبت من الخبر قبل الحكم عليه، وفي هذه الحادثة تم التثبت من أوثق المصادر وهو الوحي، حيث جاءه الوحي بخبر الكتاب وموقع المرأة.

 

معرفة الأسباب التي دفعته إلى الخطأ، فقد قال لحاطب: ((ما حملك على ما صنعت)).

ترك المخطئ يبدي حجته وعذره وفسح المجال له ليتحدث عن كل ما في نفسه، فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - حاطبا يتحدث عن كل ما في نفسه بدون أي مقاطعة أو تعنيف.

 إذا عرف صدق المخطئ وإن لم تكن حجته مقنعة فيعلن عن صدقه ولا يبخس هذه الخصلة الطيبة فقد قال - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أنهى حاطب حديثه: ((أَمَا إِنَّهُ قَد صَدَقَكُم)).

إذا كان عذره لا يقاوم خطأه فإنه يرجع إلى سوابقه وسجلاته وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الصالحة وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الذنب ببحر حسناته، فقد رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملف حاطب ووجده قد شهد بدرا فكان هذا كافيا في قبول عذره وعدم معاقبته بعد أن كانت معاقبته قائمة لو لم تكن له هذه السابقة.

 

قال ابن القيم - رحمه الله -: (من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث.

ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))، وهذا هو المانع له - صلى الله عليه وسلم - من قتل من جَسَّ عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه شهد بدراً، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات.

ولما حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة فأخرج عثمان - رضي الله عنه - تلك الصدقة العظيمة قال: ((ما ضر عثمان ما عمل بعدها)).

وقال لطلحة لما تطأطأ للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد على ظهره إلى الصخرة: ((أوجب طلحة)).

وهذا موسى كليم الرحمن - عز وجل - ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له، ألقاها على الأرض حتى تكسرت، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: (شابُّ بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي)، وأخذ بلحية هارون وجرَّهُ إليه وهو نبي الله، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئا عند ربه، وربه - تعالى - يكرمه ويحبه. فإن الأمر الذي قام به موسى، والعدو الذي برز له، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور، ولا تغير في وجهه ولا تخفي منزلته.

وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوهما، حتى إنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه، فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة، كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

 

وقال آخر:

فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا فأفعاله اللاتي سررن كثير

والله – سبحانه - يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته، فأيهما غلب كان التأثير له، فيفعل بأهل الحسنات - الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي طبعهم أحيانا - من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم)[1].

 

مثال تطبيقي للكلام النظري الذي قرره ابن القيم:

قال ابن القيم تعليقاً على قول الهروي: ((الرجاء أضعف منازل المريدين)): (شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك. ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه).

ثم حمل كلامه على أحسن وجه ممكن، ثم قال: ((وهذا وجه كلامه وحمله على أحسن المحامل.

فيقال: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:

إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤا الظن بهم مطلقا. وهذا عدوان وإسراف. فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.

والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانها. فسحبوا عليها ذيل المحاسن. وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها. واستظهروا بها في سلوكهم.

 

وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.

والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف، الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا لصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردوا ما يرد)) [2] .

ويقول أيضاً: ((والبصير الصادق يضرب في كل غنيمة بسهم، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها. ولا يتحيز إلى طائفة، وينأى عن الأخرى بالكلية ألا يكون معها شيء من الحق، فهذه طريقة الصادقين)) [3]

قطع الحديث عن الرجل بعد إنهاء ملف القضية، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك: ((صَدَقَ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيرًا)). وفي هذا حسم لمادة الغيبة وتفرق الكلمة، وفيه فتح المجال لتصحيح الخطأ وتقويم العثرات.

 

 5. البشري والعاطفة على الأهل والولد قد تقود الإنسان إلى ارتكاب الأخطاء وعدم تقدير حجم الخطأ ونسيان العواقب، فينبغي للمسلم أن يكون يقظا منتبها بعيدا عن العواطف والمصالح الشخصية، موازنا بين المصالح والمفاسد لكل ما يريد القيام به من عمل.

 

6. العطف على الأولاد والأقارب ليس عذرا في جر الأخطاء والمصائب على أهل الإسلام. بل إن هذا من الضلال عن الطريق المستقيم.

 

7. أن من جس على أهل الإسلام وأفشى سرهم إلى عدوهم فهو منافق حلال الدم، مهما كان هدفه وعذره، - إذا لم ينغمر هذا الخطأ في بحر حسناته - ولهذا أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على قوله: (منافق دعني أضرب عنقه)، وبين أن المانع من هذا الإجراء شهوده بدراً.

 

 8. أشكل على بعض الناس قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))º هل هي للماضي أو للمستقبل؟ والصحيح أنها للمستقبل لدلالة القصة عليه، ((وهذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرين عليها بل يوفقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك. ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم)) [4] .

 

9. وفي القصة رد على المتصوفة الغلاة الذين يتركون الفرائض والواجبات بحجة أنهم وصلوا وأنهم مغفور لهم جميع ذنوبهم! فإن الصحابة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا أو بشرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة لم يفهموا من هذا ترك الفرائض. ((ولم يفهم منه هو ولا غيره من الصحاب إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهادا وحذرا وخوفا بعد البشارة منهم قبلها، كالعشرة المشهود لهم بالجنة. وقد كان الصديق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر. فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاؤوا من الأعمال)) ([5]).

ولو تتبعت شأن الصحابة وعملهم وعبادتهم لرأيت من الاجتهاد والجهاد ما لا يلحق بهم غيرهم، انظر إلى عكاشة بن محصن الذي بشره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه يدخل الجنة مع السبعين ألف بغير حساب ولا عذاب. أين مات؟ لقد قتل في أرض نجد في محاربته للمرتدين أيام أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -أجمعين، وقل مثل ذلك في العشرة المبشرين بالجنة.

 

10. وفي القصة بطلان عقيدة الرافضة في البداء.

 

11. أن من قدم للإسلام عملا عظيما يريد به وجه الله والدار الآخرة، فإن الله - تعالى - يحفظ عليه دينه من الزيغ والانحراف، وأن كل من ساءت خاتمته وانحرف عن الصراط المستقيم كان بسبب دسيسة في قلبه يخفيها عن الناس.

في الصحيحين عَن سَهلِ بنِ سَعدٍ, السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنهم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَقَى هُوَ وَالمُشرِكُونَ فَاقتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى عَسكَرِهِ وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسكَرِهِم وَفِي أَصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُم شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا يَضرِبُهَا بِسَيفِهِ.

فَقَالُوا: مَا أَجزَأَ مِنَّا اليَومَ أَحَدٌ كَمَا أَجزَأَ فُلاَنٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَمَا إِنَّهُ مِن أَهلِ النَّارِ)). فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: أَنَا صَاحِبُهُ.

قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسرَعَ أَسرَعَ مَعَهُ. قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرحًا شَدِيدًا فَاستَعجَلَ المَوتَ فَوَضَعَ نَصلَ سَيفِهِ بِالأَرضِ وَذُبَابَهُ بَينَ ثَديَيهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيفِهِ فَقَتَلَ نَفسَهُ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَشهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)). قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرتَ آنِفًا أَنَّهُ مِن أَهلِ النَّارِ فَأَعظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلتُ: أَنَا لَكُم بِهِ، فَخَرَجتُ فِي طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرحًا شَدِيدًا، فَاستَعجَلَ المَوتَ فَوَضَعَ نَصلَ سَيفِهِ فِي الأَرضِ وَذُبَابَهُ بَينَ ثَديَيهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيهِ فَقَتَلَ نَفسَهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ ذَلِكَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِن أَهلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ النَّارِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ)).

قال ابن رجب: ((وقوله: (فيما يبدو للناس) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة)).

ثم قال: ((وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق، وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق))([6]).

كان السلف الصالح يخافون أشد الخوف من الملفات الخفية، كما في قوله - تعالى -: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}. فكان محمد بن المنكدر إذا تلا هذه الآية بكى طويلا، واستعجم على أهله، وقال: ((أخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب)). وكذا سلمة بن دينار، وكان الثوري يرى أن هذه أشد آية عليه في القرآن.

قال ابن رجب: ((ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في دعائه: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))، فقيل له: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ فقال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله - عز وجل -، يقلبها كيف يشاء)). خرجه أحمد والترمذي من حديث أنس))([7]).

قال البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان: ((بَاب خَوفِ المُؤمِنِ مِن أَن يَحبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشعُرُ، وَقَالَ إِبرَاهِيمُ التَّيمِيٌّ: مَا عَرَضتُ قَولِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَن أَكُونَ مُكَذِّبًا. وَقَالَ ابنُ أَبِي مُلَيكَةَ: أَدرَكتُ ثَلاَثِينَ مِن أَصحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلٌّهُم يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفسِهِ، مَا مِنهُم أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَيُذكَرُ عَنِ الحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤمِنٌ، وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ. وَمَا يُحذَرُ مِنَ الإِصرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالعِصيَانِ مِن غَيرِ تَوبَةٍ,، لِقَولِ اللَّهِ - تعالى -: {وَلَم يُصِرٌّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ})).

فمن حفظ الله للعبد: ((حفظه في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان…

وفي الجملة، فالله - عز وجل - يحفظ على المؤمن الحافظ لحدوده دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها، وقد يكون كارها له، كما قال في حق يوسف - عليه السلام -: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}، وقال ابن عباس في قوله - تعالى -: {إن الله يحول بين المرء وقلبه} قال: (يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار)، وقال الحسن - وذكر أهل المعاصي -: (هانوا عليه، فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم). وقال ابن مسعود: (إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير يقول: سبقني فلانٌ، دهاني فلان، وما هو إلا فضل من الله - عز وجل -))) ([8]). جامع العلوم والحكم 1\\468 - 469-470

 

12. رقة قلوب الصحابة وقربها من التذكرة، فعمر في حال غضب على حاطب من عمله ويحرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قتله، وما أن ذكر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ضمنه الله لأهل بدر من المغفرة والبشارة بالجنة حتى دمعت عيناه وذهب عنه ما كان يتحدث به.

 

13. تحرير الولاء والبراء: قال الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مفتاح دار السعادة 1/192.

[2] مدارج السالكين 2/39.

[3] مدارج السالكين 2/370.

[4] الفوائد: ص26-27.

[5] الفوائد ص 27- 28،

[6] جامع العلوم والحكم 1/173.

[7] جامع العلوم والحكم 1/174.

[8] جامع العلوم والحكم 1/468-469-470.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply