الخواطر المجموعة الأولى

1. سرت والنور أمامك، فانطلق ظلك على أثرك، ثم وليته قفاك، فكان الظل يسعى وأنت على أثره، وهكذا العقل، يتقبل فيتبعه الخيال، فإذا أدبر عنها انقلب الخيال إلى الأمام، وقاده في شُعب الباطل بغير لجام.

2. تبسط لسانك بالنكير على من يقلد في الدين، ولولا أنك تتلقى قول الفيلسوف على غير هدى، لقلت باكورة الاجتهاد قد أينعت.

3. هذه الدنيا كالعدسة الزجاجية في الآلة المصورة، تضع الرأس بموطئ القدم، وترفع القدم إلى مكان الرأس. فزنوا الرجل بمآثره لا بما يبدو لكم من مظاهره.

4. يبسط الشجر ظله للمقيل، ويقف بعد موته بقناديل الكهرباء على سواء السبيلº أفاتت تجير البؤس وهو أحر من الرمضاء، وتوقد سراج حكمة يهدي بعد موتك إلى المحجة البيضاء.

5. يصنع الصانع الحلي، وتضع ما تتجمل به النفوس في محافل العلى، فإن ظلت تتهافت على صانع الخواتم والسلاسل، فاعلم أنها ما برحت لاهية عن هذه المحافل.

6. حسبت العلم ضلالاً فناديت إلى الجهل، وآخر يزعم التقوى بلهاً فكان داعية الفجور. ولولا ما تلقيناه في سبيلنا من هذه الأرجاس، لكنا خير أمة أخرجت للناس.

7. ربما كان صانع الأسنّة أرق عاطفة من الطبيب، والسفيه أحفظ للحكم البالغة من الأديب، ولكني أطلب نفس الرجل حثيثاً، وأناجيها فلا تكتمني حديثاً.

8. كان هذا الغصن رطيباً، وعيش البلبل به خصيباً ولكنه سحب عليه ذيل الخيلاء، فأصبح يتقلب في ذلك البلاء، ويرتجف كما ترتجف اليد الشّلاء.

9. كل جوهرة من عقد حياة محمد عليه السلام معجزة، فإن أساليب دعوته ومظاهر حكمته، لا يربطها بحال الأمية إلا قدرة تتصرف في الكائنات بحكمة أبلغ مما تستدعيه طبائعها.

10. العفاف نور تستمده النفس من مطلع العقل، فإن ضرب عليها الهوى بخيمته السوداء، خسفت كما يخسف القمر إذا حجزت الأرض بينه وبين الشمس.

11. ينزوي البحر فتضع السفينة صدرها على التراب، وينبسط فتمر على الماء مرَّ السحاب.

والعقل يظل في موقعه من النفس طريحاً، فإن فاضت عليه الحكمة سار في سبيل النظر عنقاً فسيحاً.

12. إن تخبطك السفه أهانوك، وإن قعد بك البله أعانوك، لأنك تستطيع أن تكون تقياً، وليس في يدك أن تكون ألمعياً.

13. تتجلى فضيلتك فتنسج في هذه النفس عاطفة أرق من النسيم، وتوقد في أخرى حسداً أحر من الجحيم، وكذلك المزن ينسكب على أرض فتبتسم بثغر الأُقحوان، وينزل على أخرى فتقطِّب بجبهة من حسك السعدان.

14. جنيت وردةً لأُخَلِّصها من الشوك الذي يساورها من كل جانب، فما لبث أن طفئت بهجتها، وسكنت أنفاسُهاº فعلمت أن النفوس الزاكية لا تتخلص من النوائب يوم تموت.

15. الشر نار كامنة في قلوب تحملها صدور المستبدين، فإن قدحتها بنقد سياستهم كنت لها قوتاً، إلا أن تكون بإخلاصك وحكمتك البالغة ياقوتاً.

16. إذا قلت في السياسة ما لا تفعل، أوهِمتَ في واد لا تعرُج فيه على حقيقة - فانفض ثوبك من غبارهاº فإنه ليس من الغبار الذي يصيبك في سبيل الله.

17. إنما يقطف الفيلسوف من المنافع ما تتفتق عنه أكمام الحقيقة، ولا يعرج السياسي بنظره على الحقائق إلا إذا أطلِّت عليه المنفعة من ورائها.

18. لا تجادل المعاند قبل أن يأخذ الاستهزاء به في نفسك مكان الغضب عليه، فالغضب دخان يتجَّهم به وجهُ الحجةِ المستنيرة، وابتسامُ التهكمِ برقُه يخطف البصرَ قبل أن تقع صاعقة البرهان على البصيرة.

19. لا يمنعك من وضع المقال على محك النظر أن تتلقاه ممن هو أصفى منك ذهناً أو أرجع وزناً، فإن الورق لا يقبل ما يرتسم في الزجاجة من الصور إلا بعد إصلاح خطئها، وإعادته الألوان إلى مبدئها.

20. أرى موقع الليل من هذه البسيطة لا يفوت مقدار نهارها، فرجوت أن لا يكون الباطل أوسع مجالاً من الحقيقة، ولكن الشمس ترمز بكسوفها، إلى أن أخطأت في القياس، وبنيت رجائي على غير أساس.

21. العالم بستان، تجوَّل فيه الفيلسوفُ فقال: كيف نشأت هذه الأزهار والثمار؟ ولماذا اختلفت في النعوت والآثار؟ وطاف فيه السياسي فقال: متى يقطف هذا الثمر؟ وتؤتي تلك الشجرة أكلها؟

22. إن كبر عقلك، فأصبح يعلمك ما لم تعلم، واتسع خيالك، فبات يلقي عليك من الصور البديعة ما يلذه ذوقك، فأنت ما بين أستاذ يمحض نصيحته،ونديم لا تمل صحبته.

23. يعلمك الأستاذ كيف تغوص في عميق البحار، ويريك نموذجاً من الدر يتميز بينه وبين الأحجار، وهمتك تخلد بك إلى الإملاق، أو تجعلك المجلّي في حلبة السباق.

24. سميت الاستخفاف بالشرع حرية، فقلت: برع في فن المجاز، وتهكم بمن أصبح عبداً للهوى، وسميت النفاق كياسة، فقلت: خان الفضيلة في اسمها، أو خانه النظر في فهمها.

25. تنظر النفس في سيرة الرجل العظيم كما تنظر العين في الزجاجة النقية، فتدرك مساويها، أفلا تصنع بمآثرك الحميدة مرآة يبصر بها الناشئ بعدك صورته الروحية فيصلحها.