من معاني الأذكار طلب العفو والعافية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسى وحين يصبح:

(اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي. اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي).

[حديث صحيح رواه أبو داود ح رقم 5074 وابن ماجه 3871 والنسائي، وصححه الحاكم وابن حبان، ورواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني ح رقم 912 / 1200].

هذه الدعوات من جوامع الكلم، حافظ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يمل من تكريرها في كل صباح وفي كل مساء، وقد حفظها أصحابه، ونقلها لنا الثقات. وهي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فالعفو هو التجاوز عن العبد بغفران ذنوبه وعدم مؤاخذته بما اقترف منها، والعافية هي دفاع الله - سبحانه - عن عبده بأن يسلم من الأسقام والبلايا ومن كل مكروه، والستر والأمن والحفظ من تمام العافية في الدنيا والآخرة.

(اللهم أني أسألك العافية في الدنيا والآخرة) قلنا: إن لفظة اللهم معناها يا الله. وقال ابن القيم: يا الله أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلي. فالسائل هو العبد المؤمن الداعي الذاكر، والمسئول هو الرب النافع الضار الذي بيده ملكوت كل شيء والسؤال يتضمن إقرار السائل بعبادته لله وحده لا شرك له، لذا كان الدعاء هو العبادة، ويتضمن طلب العافية في الدنيا والآخرة، في الدين والدنيا والأهل والمال، ولهذا قال: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وإذا كان العفو هو العمدة في الفوز بالجنة والنجاة من النار، فإن العافية هي العمدة في صلاح أمور الدنيا والسلامة من شرورها، وفي صلاح الأهل والمال، وقبل ذلك في صلاح الدين، ولهذا كان سؤال العفو والعافية هو سؤال الخير كله في الدنيا والآخرة. وفي الحديث (سلوا الله العفو والعافية فإن أحدًا لم يُعط بعد القين سوى العافية) (1).

وعند البزار (ما سأل الله العبادُ شيئًا أفضل من أن يغفر لهم ويعافيهم). وقد ارتضى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الكلمة لعمه، قال العباس: يا رسول الله: علمني شيئًا أدعو الله به؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سل ربك العافية. وكأن العباس لم يقنع بهذه الكلمة فعاد يكرر سؤاله - قال: ثم جئت فقلتُ: يا رسول الله علمني شيئًا أسأله ربي - عز وجل -؟ فقال: يا عم سل الله العافية في الدنيا والآخرة (2)   قال ابن الجزري: - فلينظر العاقل مقدار هذه الكلمة التي اختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه من دون الكلم، وليؤمن بأنه - صلى الله عليه وسلم - أعطى جوامع الكلم واختصرت له الحكم، فإن من أعطى العافية فاز بما يرجوه ويحبه قلبًا وقالبًا ودينًا ودنيا، ووقي ما يخافه في الدارين علمًا يقينًا. فلقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم دعاؤه بالعافية، وورد عنه لفظًا ومعنى من نحو خمسين طريقًا، هذا وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو المعصوم على الإطلاق حقيقة، فكيف بنا ونحن عرضٌ لسهام القدر، وغرض بين النفس والشيطان والهوى.

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدعاء بالعافية سبيل الفلاح والنجاح، والفوز بالجنة والنجاة من النار، ولذلك فهو أحب الدعاء إلى الله - عز وجل -.

عن أنس أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: أي الدعاء أفضل؟ قال: سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة. ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك. ثم أياه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك.

- وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - علة ذلك للرجل فقال - فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت (3).

وعن معاذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من دعوة أحب إلى الله أن يدعو بها أحد من أن يقول: (اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة) (4).

فأفاد هذا الدعاء بالعافية أفضل من غيره من الأدعية مع ما قدمنا من اشتماله على كل نفع، ودفع كل ضر فجمع هذا الدعاء بين ثلاث مزايا: -

أولها: شموله لأمري الدنيا والآخرة.

ثانيها: أنه أفضل الدعاء على الإطلاق.

ثالثها: أنه أحب إلى الله - تعالى -من كل ما يدعو به العبد (5).

وبالعافية تندفع عنك الأسقام ويقيك الله شرها ويرفعها عنك إن وقعت بك، وقد مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقوم مبتلين فقال: أما كان هؤلاء يسألون الله العافية (6). وهذا استفهام بمعنى الاستنكار لفعل هؤلاء، فكأنه قال لهم كيف تتركون أنفسكم في هذه المحنة والابتلاء، وأنتم تجدون الدواء الحاسم لها وهو الدعاء بالعافية، واستدفاع المحن النازلة بكم بهذه الدعوة الكافية (7). وبالعافية يقيك الله شر ما لم ينزل من البلاء، وتستشعر نعمة الله عليك، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول عند رؤية المبتلى سواء في دينه أو في بدنه وأهله وماله (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا) وبين لنا أنها بمثابة المصل الواقي من طروء مثل هذا البلاء، فمن قالها عند أهل البلاء لم يصبه ذلك البلاء (2). والعافية تكون من أمراض البدن وأمراض القلوب سواء بسواء، وإذا كانت أمراض البدن معروفة، فإن أمراض القلب ترجع إلى شيئين: الأول: أمراض الشهوات ومنشؤها الهوى.

الثاني: أمراض الشبهات ومنشؤها الجهل.

والعافية منهما تكون بالإيمان واليقين والتوكل، وبطلب العلم النافع والعمل بمقتضاه (9). وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين يصبح وحين يمسى ثلاث مرات: (اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت) (10).

 

(اللهم استر عوراتي). تضرع له - سبحانه - ليستر عورتك، والعورة هي كل ما يخشى العبد أن يطلع عليه الناس، ويستحي أن يعلموه من حاله. والعورة نوعان: حسية ومعنوية.

فالحسية: هي عورة الجسد وعورة الأهل. والمعنوية: هي الذنوب والآثام. وكلاهما يحتاج العبد إلى ستر الله فيه في الدنيا فلا يفضحه في الدنيا باطلاع الناس على عوراته وهتك ستره، وكذلك في الآخرة يعفو عن زلاته، ويلبسه من حلل الجنة حين يكسو المؤمنين في الموقف ويؤمن روعهم (إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلًا بهما، وإن أولى الخلائق يكسى إبراهيم) (11). لقد يسر الله- تبارك وتعالى -لعباده أسباب الستر في الدنيا والآخرة، فرزقنا من نعمه ما نستر به عوراتنا من الثياب وما نتجمل به أيضًا، وبين لنا أن الإيمان والتقوى خير ما نستتر به ونتجمل، والشيطان الرجيم يسعى إلى هتك عوراتنا، فيدفعنا إلى معصية الله - تعالى -كما فعل مع آدم من قبل: (يَابَنِي ءَادَمَ قَد أَنزَلنَا عَلَيكُم لِبَاسًا يُوَارِي سَوآتِكُم وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقوَى ذَلِكَ خَيرٌ ذَلِكَ مِن ءَايَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ(26يَابَنِي ءَادَمَ لَا يَفتِنَنَّكُمُ الشَّيطَانُ كَمَا أَخرَجَ أَبَوَيكُم مِنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُم هُوَ وَقَبِيلُهُ مِن حَيثُ لَا تَرَونَهُم إِنَّا جَعَلنَا الشَّيَاطِينَ أَولِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ)[الأعراف: 26-27].

والعجب أن الله - تعالى -قد أراد لنا الستر، وأراد الشيطان لنا الفضيحة وكشف العورات، ومع هذا فأكثر الناس إلا من رحم الله، يأبى ستر الله عليه ويتجمل بكشف العورات دون حياء، وترى أكثر ذلك في النساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والذنوب والآثام هتك للباس الإيمان والتقوى، والعبد يحتاج إلى ستر الله وعفوه في الدنيا والآخرة وأولى الناس بستر الله أهل الإيمان والتقوى الذين يستشعرون الحياء من الله، ويستشعرون الندم على ما فرطوا في جنب الله.

(يدني الله العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك. قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين) (12).

ومن الناس من يفعل الذنب فيستره ربه، ولكنه يأبى إلا الفضيحة، فيعلن عن ذنبه ويتباهى به، وهؤلاء يفضحهم الله على رءوس الأشهاد، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) (13).

ولأن الله - تعالى -عفو كريم يحب العفو ويحب الستر فقد حث عباده المؤمنين على الستر ورغبهم فيه لأن(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبٌّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ) وهم المنافقون المرجفون الذن يروجون لكل خبيث وقبيح.

ولهذا فإن ستر المسلم العاصي على نفسه أولى من اعترافه بذنبه، وستر المسلم على أخيه المسلم أولى من

فضحه وهتك ستره، فما بالكم بمن يقدح في أعراض الناس، ويتجسس عليهم، ويهتك حرماتهم بغير برهان، وفي الصحيح: (من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة) (14).

 

(وآمن روعاتي). الروع هو الفزع: والروعة هي الفزعة وهي المرة الواحدة من الروع، وفي المثل: أفرخ روعك أي أخرج فزعك ورعبك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين حين فزعوا بالمدينة: (لن تُراعوا، لن تراعُوا) (15).

والشعور بالأمن نعمة عظيمة لا يعرف قدرها إلا من افتقدها فتصور نفسك وقد هجم عليك عدوك فسلبحريتك أو أخذ ولدك، وروّع أهلك، فانتقلت من حضن أهلك ودفء بيتك إلى برد سجنك، ولا تدري ماذا يفعل بك.

إن نعمة الأمن والستر من تمام العافية، ولا يملك ذلك إلا مالك الملك الذي يستر العورات ويؤمن الروعات ويحفظ عبده من كل مكروه وسوء، وكفى بذلك نعمة (من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) (16).

ولا يكتمل أمن المسلمين إلا بتطبيق شرائع هذا الدين، فإن فيها العصمة لبدن المسلم وعرضه وماله ودينه وعقله، وما شرع الله الحدود والتعزيرات إلا لتدعيم هذا الأمن. لقد كان المسلمون في بداية الأمر يخافون على دينهم، ولا ينام الواحد منهم إلا ويده على سلاحه، فبشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمام الأمن مع تمام الدين، فأضحى الراكب يسير من بصرى إلى صنعاء لا يخشى إلا الله.

والأمن التام يكون يوم القيامة للمؤمنين في الجنة دار السلام فيحل الله رضوانه على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدًا ويجد المؤمن البشارة عند موته (تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ) (فصلت الآية: 30). ولكي يتحقق هذا الأمن التام، فلابد من حفظ الله ومن ستر الله - تعالى -، ولهذا اختم هذا الدعاء بطلب الحفظ (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أٌغتال من تحتي). وكل هذه مقدمات لتحقيق الأمن التام في الدنيا والآخرة لأن الله لا يحفظ إلا من حفظ حدوده. (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك). والله- تبارك وتعالى -يسخر الملائكة لحفظ عباده في الدنيا، فلا يصل إلى عبده إلا ما كتبه الله. (لَهُ مُعَقِبَاتٌ مِن بَينِ يَدَيِه وَمِن خَلفِهِ يَحفَظونَهُ مِن أَمرِ الله). أي يحفظونه بأمر الله. أما الحفظ في الآخرة، فهو حفظ النفس والبدن من الوقوع في نار جهنم، والعياذ بالله. ومِن حفظ حدود الله، - حفظه الله - تعالى -(فَاللَّهُ خَيرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ). والحمد لله أولًا وآخرًا.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه الترمذي وحسنه، وأحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الحاكم وابن حبان، وصححه

ابن حجر في الأربعين.

(2) رواه الطبراني بأسانيد رجال بعضها الصحيح غير زيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث - ورواه

الترمذي بنحوه وقال: هذا حديث صحيح.

(3) أخرجه الترمذي وحسنه.

(4) أخرجه الطبراني في الكبير، ورجاله الصحيح، وهو في صحيح سنن ابن ماجه برقم

(3106) - وفي السلسلة الصحيحة برقم (1138).

(5) تحفة الذاكرين - للشوكاني ص355.

(6) رواه البزار، ورجاله ثقات.

(7) الشوكاني - تحفة الذاكرين ص353.

(8) رواه الترمذي، وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.

(9) فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين - ترتيب أشرف عبد المقصود جـ ص386.

(10) رواه أبو داود.

(11) متفق عليه.

(12) متفق عليه.

(13) البخاري - ك الأدب ح رقم (6069).

(14) مسلم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply