على مثل هذا فليبكِ الباكون ويحزن المحزونون


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يحسُن بالمسلم البكاء، والأسف، والحزن على فوات الأعمال الصالحة والنعيم المقيم، لا على حظوظ الدنيا الفانية، وشهواتها الآنية، لهذا عندما حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الغزو والجهاد، واستنفر الناس في المدينة في غزوة تبوك، جاء فقراء المسلمين، وطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحملهم، فقال: \"لا أجد ما أحملكم عليه\"، فرجعوا يبكون حزناً، ولم يستبشروا بتخلفهم عن رسول الله، ويفرحوا كما فعل مرضى القلوب من المنافقين، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى، مسلياً لهم ولأمثالهم من الصادقين: \"لَّيسَ عَلَى الضٌّعَفَاء وَلاَ عَلَى المَرضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحسِنِينَ مِن سَبِيلٍ, وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحمِلَهُم قُلتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحمِلُكُم عَلَيهِ تَوَلَّوا وَّأَعيُنُهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ\".

كان البكاؤون اثنى عشر رجلاً، منهم علية بن زيد، فصلى من الليل وبكى، وقال: \"اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني لأتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال، أو جسد، أو عرض\"، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أين المتصدق هذه الليلة؟ \"، فلم يقم إليه أحد، ثم قال: \"أين المتصدق فليقم\"، فقام إليه فأخبره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"أبشر، فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة\"، فهذا الصحابي عندما حرم بسبب فقره عن الخروج للغزو عوَّض نفسه بأن تصدق بكل ما أصابه من المسلمين في بدنه، وماله، وعرضه.

قال ابن رجب: \"قال بعض العلماء: هذا والله بكاء الرجال، بكوا على فقدهم رواحل يتحملون عليها إلى الموت في مواطن تُراق فيها الدماء في سبيل الله، وتُنزع فيها رؤوس الرجال عن كواهلها بالسيوف، فأما من بكى على فقد حظه من الدنيا، وشهواته العاجلة، فذلك شبيه ببكاء الأطفال والنساء على حظوظهم\".

وقال البعض: \"يرى الرجل في الجنة يبكي، فيسأل عن حاله فيقول: كانت لي نفس واحدة فقتلت في سبيل الله، ووددت أنه كانت لي نفوس كثيرة تقتل كلها في سبيله\".

قلت: لقد بكى عبد الله بن حذافة السهمي - رضي الله عنه - عندما أسِر، وأراد الملك النصراني أن يلقيه في قدر يغلي، فرُدَّ إلى الملك وسأله عن سبب البكاء، وظن لخفة عقله أنه بكى فزعاً من الموت، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: \"لي نفس واحدة تقتل في سبيل الله، فوددت أن تكون لي أنفس بعدد شعر رأسي حتى تقتل في سبيل الله\"، فدهش الملك من هذا الصنيع، وعفى عنه وعمن معه من الأسرى، واكتفى أن يُقبِّلوا رأسه.

فالبكاء على فوت الأعمال الصالحة، ومن خشية الله، من أجل القربات، وسبيل إلى إكرام الله - عز وجل -، والفوز برضوانه، والتنعم بجنانه، ولهذا بكى أبو بكر من شدة الفرح عندما أذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمصاحبته له في الهجرة، مع علمه بالمخاطر التي سيواجهها، ولكنها هانت كلها في سبيل الله، ومن أجل سلامة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ولذات السبب كان السلف يبكون لفراق رمضان، ومن الحرمان من لم يحج بيت الله الحرام.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا واجعلنا من الراشدين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply