تنبيه حول معنى السعادة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مرَّ في مقال سابق بعنوان (خذه ومثله حزناً) حديثٌ عن حال أكثر الناس مع السعادة فهل يعني ذلك أن يتخلى الناس عن دنياهم، وجميع ملذاتهم، ووجاهاتهم، ورياساتهم؟

وهل يفهم من ذلك أن يعيش الواحد منهم مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق؟

والجواب: لاº ليس الأمر كذلكº فلا بد للناس من دنياهمº فالإسلام أذن في اكتساب الأموال، وحث على العمل، ونعى البطالة، ولم يَحرم الناس أن يستمتعوا بحياتهم، وأن يروحوا الخاطر بنعيمهاº شريطة الاقتصاد.

قال-تعالى-: [قُل مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ] الأعراف: 32.

وقال في الآية التي قبلها: [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ, وَكُلُوا وَاشرَبُوا وَلا تُسرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبٌّ المُسرِفِينَ] الأعراف: 31.

فلا ينافي السعادة أن يستمتع الإنسان بما أباح الله له، وليس من شرط السعادة أن يتخلى الإنسان عن جميع شهواته.

وليس من شرطها -كذلك- أن يتخلى الإنسان عن دينه، ويطلق العنان لنزواته وشهواته.

بل إن شرط السعادة الأعظم أن يكون الإنسان متمسكاً بدينه، عاضاً عليه بالنواجذº فذلك سر السعادة، وينبوعها الأعظم.

وحينئذ تكون الشهرة، والمال، والجاه، والرياسة أسباباً للسعادة، ومكملات لهاº لأنها اعتمدت على ركن ثابت لا يتغير، ولا يحولº فلا يلام الإنسان بعد ذلك أن يكون ذا شهرة، أو مال، أو وجاهة أو رياسة.

وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة-فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة، والبلاد القاصية.

أما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارمº بجاذب ابتغاء الفضيلة، وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه الحميدة-فذلك خير من العزلة، والاختباء في زوايا الخمول.

بل لا يلام الإنسان إذا سعى للرياسة إذا كان يرى من نفسه الكفاءة والقدرة، ولا يريد أن يتخذ من رياسته حِبَالَةً لا يتعدى نفعها إلى الأمة، وإنما يريد نشر الخير، وبسط العدل، ورفع الظلمº فذلك موعود بالتسديد والإعانة في الدنيا، وبالإظلال في ظل عرش الرحمن في الآخرة يوم لا ظل إلا ظله.

ثم إن الآياتِ الواردةَ في سياق التزهيد والحط من متاع الحياة الدنيا لا يقصد منها ترغيب الإنسانº ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.

وإنما يقصد منها حكم أخرى، كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومن قَصُرت أيديهم عن تناولها، لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً.

ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشَّرَه والطمعº لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقةº فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكبرُ بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها أينما كانوا.

 

ومتى عكف الإنسان على ملاذِّ الحياة، ولم يصحُ قلبُه عن اللهو بزخارفها-ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.

وبالجملة فإن تقوى الله - عز وجل - والإقبال عليه بالكلية-هو أصل السعادة، وسرها، وكل سعادة بدون ذلك فهي مبتورة أو وهمية، وإن اجتمعت حولها أسباب السعادة الأخرىº فالسعادة ينبوع يتفجر من القلب لا غيث يهطل من السماء، والنفس الكريمة الراضية التقية الطاهرة من أدران الرذائل وأقذارها سعيدة حيثما حلت، وانى وجدت: في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور وبين الآكام والصخورº فمن أراد السعادة الحقة فلا يسأل عنها المال والحسبَ، والفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين.

بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيهº فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد [قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا] الشمس: 9-10.

وما هذه الابتسامات التي تُرى متلألأة من أفواه الفقراء والمساكين، والمحزونين والمتألمينº لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم.

وما هذه الزفرات التي تُسمع متصاعدة من صدور الأغنياء والأثرياء وأصحاب العظمة والجاهº لأنهم أشقياء في عيشهم، بل لأنهم أشقياء في أنفسهم.

وما كدَّر صفاء هذه النفوس، وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها-مثلُ البعد عن الله- عز وجل -.

ولا أنار صفحتها، ولا جلَّى ظلمتها، ولا كشف غَمَّاءها كالإقبال على الله -تبارك وتعالى-.

فمن أراد السعادة العظمى فليقبل على ربه بكلِّيَّته، حبَّاً، وذكراً، وإنابة، وخوفاً، ورجاء، ونحو ذلك من سائر العبوديات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -: \"من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية\".

وقال- رحمه الله -: \"فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله- سبحانه -.

ومن عبد غير الله-وإن أحبه، وحصل به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة-فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم\".

وقال: \"فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بالهها الله الذي لا إله إلا هوº فلا تطمئن بالدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.

ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله-فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت، وفي بعض الأحوال، وتارة يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير مُنعم ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به، ووجوده عنده.

أما إلهه الحق فلا بد له منه في كل حال، وكل وقت، وأينما كان فهو معه\".

وقال ابن حزم- رحمه الله -: \"تطلبت غرضاً يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحداً، وهو طرد الهم.

فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط، ولا في طلبه فقط، ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلاً إلا فيما يعانون به إزاحته عن أنفسهمº فمن مخطىء وجهَ سبيله، ومن مقارب للخطأ، ومن مصيب-وهو الأقل من الناس-في الأقل من أموره\".

إلى أن قال- رحمه الله -: \"وليس في العالم مذ كان إلى أن يتناهى-أحد يستحسن الهم، ولا يريد طرده عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي هذا السر العجيب، وأنار الله-تعالى-لفكري هذا الكنز العظيم-بحثت عن سبيل موصلة -على الحقيقة- إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس الذي اتفق عليه جميع أنواع الإنسان -الجاهل منهم والعالم، والصالح والطالح- على السعي له، فلم أجدها إلا في التوجه إلى الله - عز وجل - بالعمل للآخرة.

وإلا فإنما طلب المال طلابُهº ليطردوا به همَّ الفقر عن أنفسهم، وإنما طلب الصوت من طلبهº ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبهاº ليطرد بها عن نفسه هم فوتها، وإنما طلب العلم من طلبهº ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلكº ليطرد بها عن نفسه همَّ التوحد، ومغيب أحوال العالم منه، وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب، ونكح من نكح، ولبس من لبس، ولعب من لعب، واكتن من اكتن، وركب من ركب، ومشى من مشى، وتودع من تودعº ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال، وسائر الهموم.

 

وفي كل ما ذكرنا-لمن تدبره-هموم حادثة لابد لها من عوارض تعرض في خلالها، وتعَذٌّر ما يتعذر منها، وذهاب ما يوجد منها، والعجز عنه لبعض الآفات الكائنة، وأيضاً نتائج سوء تنتج بالحصول على ما حصل عليه من كل ذلك من خوف منافس، أو طعن حاسد، أو اختلاس راغب، أو اقتناء عدوِّ مع الذم والإثم وغير ذلك.

ووجدت العمل للآخرة -سالماً من كل عيب، خالياً من كل كدر- موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة، ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم، بل يُسرº إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون له على ما يطلب، وزايد في الغرض الذي إياه يقصد، ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتمº إذ ليس مؤاخذاً بذلك، فهو غير مؤثر فيما يطلب، ورأيته إن قُصد بالأذى سُرَّ، وإن نكبته نكبة سُرَّ، وإن تعب فيما سلك فيه سُرَّº فهو في سرور أبداً، وغيره بخلاف ذلك أبداًº فاعلم أنه مطلوب واحد، وهو طرد الهم، وليس إليه إلا طريق واحد، وهو العمل لله -تعالى- فما عدا هذا فضلال وسخف\".  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply