الاستقامة ( 2-2 )


بسم الله الرحمن الرحيم

 

خامساً: القوادح في الاستقامة

لمَّا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة، نهاه عن ضِدِّها، وهو الطغيان، والمَيل إلى الكافرين والظالمين، والفاسقين والمنافقين، فقال: ((وَلاَ تَطغَوا)).

الطغيان ضد الاستقامة، تجاوز، وإفراط، وتعدِّي لحدود الله، وإمعان أيضًا في الباطل، قال: ((وَلاَ تَطغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ)).

فقوله - تعالى -: ((وإنه بما تعملون بصير)) فيه وعد ووعيد، وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - بصيراً بما يعمله العباد، فإنه سيجزيهم بما علمه، ورآه من أعمالهم التي وقعت منهم حقيقة، على الخير خيرًا، وعلى الشرِ بما يستحقون.

قال - تعالى -: ((وَلاَ تَركَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)).

الركون: هو المَيل، وهو أيضًا ضد الاستقامة.

والاستقامة تتضمن مفاصلة أعداء الله، وبُغضَ أعداء الله، والحذرَ من طاعة أعداء الله، قال - تعالى -: ((وَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَدَع أَذَاهُم وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)) [الأحزاب: 48].

وطاعتهم من الركون إليهم.

 قوله - تعالى -: ((فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن أَولِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) [هود: 113]. فيه وعيد شديد وتهديد لمن ركن إلى الظالمين وينبغي أن يُعلم أن أكثر ما يطلق عليه اسم الظلم في القرآن الشرك، قال - تعالى -: ((وَلاَ تَدعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرٌّكَ فَإِن فَعَلتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ)) [يونس: 106].

وقال: ((إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13].

ويشمل الظلم أنواع الظلم، وقد يُراد به في بعض المواضع ما دون الشرك، مثل الآية التي أَشَرتُ إلى معناها، قال - تعالى -: ((ثُمَّ أَورَثنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصطَفَينَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَالِمٌ لِّنَفسِهِ وَمِنهُم مٌّقتَصِدٌ وَمِنهُم سَابِقٌ بِالخَيرَاتِ بِإِذنِ اللَّهِ)) [فاطر: 32].

هذه الأصناف هي أصناف المؤمنين بالكتاب وبالرسول، منهم الظالم لنفسه المُخلِّط، ومنهم المقتصد وهو المتوسط، ومنهم السابق بالخيرات وهم المقربون.

سادسًا: أسباب الاستقامة

1 - صحة الإيمان واليقين:

لأن الانحراف والفتور والتراجع ينشأ عن ضعف اليقين، كلما كان الإيمان أقوى كلما تحققت الاستقامة، وتكاملت، وتمت، قال - تعالى -: ((فَاصبِر إِنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقّ)) [الروم: 60].

فاليقين يحمل على الصبر، والصبر هو قاعدة الاستقامة، فكل من الصبر واليقين عماد للاستقامة.

فالاستقامة والسير على الطريق، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي تفتقر إلى اليقين والصبر.

فما يُؤتَى الإنسان إلا من ضعف إيمانه، ومن ضعف يقينه، ومن ضعف صبره.

2 - التبصر بالدين:

والعلم بما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة والتبصر فيهما، التدبر لهما، تدبر القرآن يُورِث معرفة بما أمر الله به وبما نهى عنه، وفي القرآن الترغيب والترهيب والوعد والوعيد.

فالعلم بهذه النصوص واستشعارها واستحضارها من أسباب الاستقامة، أن تَعلَم أن الله أمرك، أن تعلم عاقبة الطاعة، وعاقبة المعصية وعاقبة تركها، فالعلم بذلك واستشعاره من أسباب الطاعة.

الانحراف إما أن يكون لعدم العلم أو لعدم اليقين، وعدم الإيمان التام، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَزنِي الزَّانِي حِينَ يَزنِي وَهُوَ مُؤمِنٌ))[1].

الزاني المسلم ما يَكفُر بزناه، لكنه يفتقد الإيمان الوازع، فالزاني ما زنى والشارب ما شرب والسارق ما سرق إلا عندما زال عنه الإيمان الرادع، الذي يحمل على الكفِّ، فقد يتوفر هذا الإيمان فتحصل الاستقامة باجتناب ما حَرَّمَ الله، وهكذا في المأمورات، فالإيمان هو الوازع، وهو يقوم على العلم.

3- الدعاء:

فيسأل الإنسان ربه الثبات \"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، اللهم اهدني الصراط المستقيم\" فالدعاء الواجب والمستحب يتضمن سبب من أسباب الاستقامة.

ومن الأدعية: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ الهُدَى وَالتٌّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى)) [2]، ((اللَّهُمَّ اهدِنِي وَسَدِّدنِي))[3].

فسؤال الهداية، وسؤال الثبات، واستمداد العون من الله هي من أسباب الاستقامة ((اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ)) [4]، فبدون هداية الله وعونه وتوفيقه لا يصل الإنسان إلى شيء، ولا يقوى على شيء، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

4- اختيار الصحبة الصالحة:

فالصحبة الصالحة الذين يُذَكِّرون الإنسان إذا نسي، ويأمرونه بما يجب عليه، وينكرون عليه إذا انحرف، ويعينونه إذا كَسُلَ، قال - تعالى -: ((وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ)) [التوبة: 71].

المؤمن إن أصابه شيء احتسبه: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((عَجَبًا لِأَمرِ المُؤمِنِ إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ وَلَيسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ, إِلَّا لِلمُؤمِنِ إِن أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ وَإِن أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ))[5].

سابعًا: آثار الاستقامة

إن أعظم آثار الاستقامة مغفرة الله ورحمته وكرامته ورضوانه، قال - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا فَلَا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعمَلُونَ)) [فضلت: 30].

يأتي المؤمن يوم القيامة وهو آمن، والناس يخافون ويفزعون، قال - تعالى -: ((أَفَمَن يُلقَى فِي النَّارِ خَيرٌ أَم مَّن يَأتِي آمِناً يَومَ القِيَامَةِ)) [فصلت: 40].

أمن وهدى، قال - تعالى -: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ,)).

في الآية الأخرى: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحزَنُوا)) [فصلت: 30].

يُقَيِّض الله لهم الملائكة في أصعب الأحوال، تطمئنهم في الدنيا، وأيضًا تُقَوِّي فيهم الثقةَ بالله، والتوكلَ عليه، وحُسنَ الظن به، لا حُسن الظن الذي هو اغترار وأماني، إنما حُسنُ الظن المبني على مجاهدة النفس، والجد، والاجتهاد في طاعة الله، فتنزل عليهم عند الموت وفي القبر، وتتلقاهم يوم القيامة ألا تخافوا ولا تحزنوا، قال - تعالى -: ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَت لَهُم مِّنَّا الحُسنَى أُولَئِكَ عَنهَا مُبعَدُونَ * لَا يَسمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُم فِي مَا اشتَهَت أَنفُسُهُم خَالِدُونَ * لَا يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلَائِكَةُ هَذَا يَومُكُمُ الَّذِي كُنتُم تُوعَدُونَ)) [الأنبياء: 101-103].

إِنَّ مِن عاقبة الاستقامة: السعادة في الدنيا والآخرة، فأهل الإيمان هم في نعيم في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.

كما قال ذلك ابن القيم - رحمه الله - في قوله - تعالى -: ((إِنَّ الأَبرَارَ لَفِي نَعِيمٍ,)) [الانفطار: 13].

نعيم في الدنياº بما يجعله الله في قلوبهم من السرور وقرة العين، والفرح بالإسلام، وبالإيمان وبالقرآن، وفي البرزخ يفتح للمؤمن باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويصير عليه قبره روضة من رياض الجنة، وفي الآخرة في جنات النعيم، في نعيم مقيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

فنسأل الله لنا ولكم الاستقامة، والثبات على دينه، وأن يعصمنا وإياكم من مُضِلَّات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.

 

----------------------------------------

[1] [صحيح] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[2] [صحيح] أخرجه مسلم (2721) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.

[3] [صحيح] أخرجه مسلم (2725) من حديث علي - رضي الله عنه -.

[4] [صحيح] أخرجه أبو داود (1552)، والنسائي (1303) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله-

[5] [صحيح] أخرجه مسلم (2999) من حديث صهيب -رضي الله عنه- 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply