بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله النبي الأمين، - صلى الله عليه وسلم - آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين..أما بعد:
فيقول المولى - سبحانه وتعالى -: \" من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون \" [البقرة]، ويقول - سبحانه -: \" وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً \" [المزمل]، وقال - سبحانه -: \" إن تبدوا الصدقات فنعمى هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم \" [البقرة]، وقال - تعالى -: \" وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون \" [البقرة]، وقال-صلى الله عليه وسلم-: \" ما نقصت صدقة من مال \" [أخرجه مسلم]، من هذا التشريع الإلهي النبوي، أحث إخواني المسلمين على تفقد أحوال إخوانهم المسلمين، وتلمس حاجاتهم، فالمسلم أخو المسلم، وكم من صدقة أحصنت فرج أرملة من أجل الحصول على وجبة لأيتامها، وكم من صدقة حفظت ماء وجه أب فقير عن مد يد السؤال، وهذه قصة من واقع الحال، وليست من نسج الخيال، فقد كان هناك أسرة فقراء أيتام، تعولهم أم فقيرة الحال، وكانت تأتيها الزكاة والصدقة كل شهر، وفي شهر من الأشهر تأخر الوارد الشهري عن موعده المحدد، فصبرت لعل الله أن يأتي بالفرج من عنده، فلما تأخرت الصدقة تجملت المرأة ولبست أحسن ثيابها، وتعطرت وتأهبت للخروج، وقبل خروجها بثوان معدودة، وإذا بالباب يطرق، واستغرب الأخوة من رائحة العطر الجذابة الأخاذة، المنبعثة من داخل ذلك المنزل المتهالك الفقير، وعندما طرقوا الباب خرجت المرأة بكامل زينتها، فأعطوها الصدقة وتأسفوا لها عن التأخير، وسألها أحدهم عن رائحة العطر، فقالت وهي تبكي بكاءً مريراً: لقد كنت ذاهبة لأبيع عرضي وأطعم صغاري.
ومن كان لديه مال ويبخل به عن إخوانه، ويعلم أن إحدى المسلمات قد تبيع عرضها، ويتركها تفعل ذلك، فقد حق عليه قول الله - جل وعلا -: \" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون \" [النور].
فيا أيها الناس اتقوا الله في إخوانكم الفقراء والمحتاجين، فهم بأمس الحاجة لكم، مدوا لهم يد العون، وحصنوا فروجهم، واحفظوا أهليهم من الضياع، ارعوا حق عائلهم، فمنهم المتعفف الذي لا يبوح لأحد بمسكنته وحاجته، ومنهم من لا تعرف فقره وخلته لأنك إذا رأيته فربما حسبته من الأغنياء من التعفف، قال - تعالى -: \" للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم \" [البقرة].
علينا معاشر المسلمين أن نسعى جاهدين لمعرفة المحتاجين والمعوزين لنسد حاجاتهم، ونعطيهم من مال الله الذي آتانا، فالله تفضل علينا من فضله العظيم، وجاد علينا من بحر جوده العميم، فيجب علينا أن نُري الله من أنفسنا خيراً، ونعلم أن هذه الأموال والنعم التي بأيدنا إن لم نؤد حقها فستكون وبالاً وعذاباً نصلاه يوم القيامة، فالله استخلفنا على هذه الأموال لينظر وهو أعلم بنا ماذا سنعمل بها، هل سنصرفها فيما يقربنا إلى زلفى، أم سيكون مصيرها الترف والبذح والشح والبخل، نسأل الله العفو والعافية.
قال - تعالى -: \" وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى \" [الليل 8-11].
وقال - تعالى -: \" هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء \" [محمد38].
يا أخي المسلم، ويا أختي المسلمة، يجب على كل منا أن يقدم لنفسه ما يتقي به عذاب القبر وعذاب الآخرة، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، واعلموا أن كل ريال يُقدم للفقراء فهو الباقي عند الله - تعالى -، وما أكلنا وشربنا ولبسنا وأبلينا فهو الذي أفنينا، الذي ذهب بلا فائدة تُرجى، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \" يقول العبد: مالي، مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى ـ تصدق ـ فأبقى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس \" [أخرجه مسلم وغيره]، والله ما نقصت صدقة من مال، بل تزده، بل تزده، بل تزده، وأقسم على ذلك، لأنه أمر حسمه الشارع الكريم، بأن الله يخلف للمنفق، اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً.
يذكر أحد الأخوة أنه كان يصلي في أحد المساجد في أواخر الشهر، وبعد الصلاة قام رجل يسأل الناس، فيقول: رق له قلبي، وحزنت لأجله، وشعرت أنه صادق في دعواه الفقر والحاجة، فتصدق الناس عليه، وكان في محفظتي كل مصروف البيت، فبدأ الشيطان يثبط هممي ويكسلني، وبدأت النفس الأمارة بالسوء تلومني، كيف تنفق كل ما لديك من أجل الصدقة، أولادك أولى، أهلك أحق بذلك، وبإمكاني أن أتصدق بكل ما في المحفظة، ولو احتجت لاستدنت ثم سددت الدين حال تسلمي للراتب، ولكن هذا دأب الشيطان، وذلك طريق النفس الأمارة بالسوء، فما كان مني إلا أن أدخلت يدي في جيبي وأخرجت كل ما في المحفظة من مال دون رؤيته، ولم أدر كم عدده، وأعطيته ذلك المسكين، فارتاحت نفسي، وهدأ قلبي، وسكنت جوارحي، واطمأننت طمأنينة غريبة، ثم اتجهت إلى سيارتي منطلقاً إلى بيتي، وأثناء سيري، فتحت صندوق السيارة لأخذ شريط لأسمعه، وفوجئت بوجود مبلغاً من المال أكثر بكثير مما دفعته لذلك المسكين، فعرفت أن الله قد أخلف علي بما هو أفضل مما دفعت، فالله - سبحانه - هو الغني ونحن الفقراء، وخزائنه ملئ، وتذكرت قول الله - تعالى -: \" وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين \" [سبأ 39].
وذكرت إحدى الأخوات أنها تنفق من راتبها الشهري مبلغاً وقدره 1500 ريال، تعطيه شهرياً لأسرة فقيرة، وهم لا يعلمون من يعطيهم هذا المال كل شهر، فتقول: أذهب أنا وزجي نهاية كل شهر إلى ذلك البيت، وأضع المبلغ في ظرف وأدخله من تحت عقب الباب، وتقول: الحمد لله رأيت بركة في مالي ومال زوجي، فاشتريت أرضاً وبيتاً، وبنيناً عمارة ولله الحمد، وكل ذلك بفضل تلك الصدقة التي منَّ الله بها علينا، وألهمنا ذلك الباب العظيم الذي نستطيع من خلاله مساعدة إخواننا الفقراء والمساكين، وتزكية لأموالنا ولنفوسنا، وتطهرينا لقلوبنا، قال - تعالى -: \" خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاة سكن لهم والله سميع عليم \" [التوبة 103].
ما أعظم الصدقة في سبيل الله، وما أعظم مردودها، وما أجمل نتاج ثمرتها، ومن أراد أن يعرف ذلك فكيفيه ما ذكرت من أدلة وحوادث، وهذه باقة أخرى أعطر بها الأسماع، وأكحل بها الأعين عن فضل الصدقة:
قال - تعالى -: \" مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم \" [البقرة].
الصدقة وإن كانت قليلة فهي عند الفقير تقع منه بمكان، لأنه ربما لا يجد قوت يومه هو وأسرته، فيفرح بالقليل وكأنه كثير، ولأنه لا يطمع في التخمة، بل يريد ما يسد به الرمق، ويُسكت به صراخ أطفاله، فكم من الآباء من يبقى طول يومه وليله يبحث عن عمل، يكسب من ورائه لقمة حلالاً، يطعمها أهله وولده، ولا يمد للناس أعطوه أو منعوه، وأقصد بذلك الفقير الذي قال الله فيه: \" تحسبهم أغنياء من التعفف \" [البقرة]، فلا يحمل هم الأسرة إلا ربها وعائلها، فالأب هو العائل وهو القائم على شؤون الأسرة، فتراه يسعى جاهداً لتوفير سبل الراحة لأسرته وأهل بيته، وعندما يكون فقيراً فلا تسأل عن حاله وهمه وغمه، كنا ذات ليلة في عشاء، وبقي منه الكثير، فأراد صاحب المنزل وضعه في صناديق المهملات، فاقترحت عليه أن نتصدق به على من هو بحاجة، فرحب بالفكرة، فاتصلت على الأخوة في إحدى الجمعيات الخيرية، فحضروا فوراً، وكان الوقت قد تجاوز العاشرة مساءً، فحضروا وأخذوا الطعام المتبقي وهو كثير، فذهبوا به إلى جماعة فقيرة تقطن البراري، ووجدوا أسرة فقيرة معدمة، يعولها رجل كبير في السن، فوجدوه خارج منزله في ساعة متأخرة من الليل، فتوجهوا نحوه وهم يعرفون حاله، وقدموا له الطعام، فانهار بالبكاء الشديد، فسألوه عن ذلك، فقال: لقد كنت أحمل هم هؤلاء الأطفال، وكيف أطعمهم هذه الليلة وأنا لا أملك لنفسي شيئاً فضلاً عن أملكه لهم، فجاء الله بكم فرجاً من عنده - سبحانه -، فأخذ الطعام وأكل وأكلت أسرته ولله الحمد والمنة.
فانظروا يا من تجمعون الأموال ريالات ومئات وآلاف وملايين، انظروا حال إخوانكم المسلمين الفقراء، تلمسوا احتياجاتهم، فوالله ليس بمسلم من شبع وجاره جائع، واعلموا أن هذه الأموال التي ستخلفونها بعد مماتكم، ستكون وبالاً عليكم، فلقد مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يملك من حطام الدنيا شيئاً، بل قال - عليه الصلاة والسلام -: \" ما لي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها، وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح \" []، وهاهم العلماء يموتون الواحد تلو الآخر، ولم يخلفوا وراءهم شيئاً يُذكر من متاع الدنيا الزائل، فلماذا نرى الأغنياء يجمعون هذه الأموال، ولا ينفقونها في سبيل الله، ولا يتحسسون حال إخوانهم الفقراء حولهم، وقد توعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: كنت جالساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُتي بجنازة، ثم أُتي بأخرى، فقال: \" هل ترك من دين؟ \"، قالوا: لا. قال: \" فهل ترك شيئاً؟ \" قالوا: نعم، ثلاثة دنانير، فقال بأصبعه: \" ثلاث كيات \" [أخرجه أحمد واللفظ له، والبخاري وابن حبان]، فإذا كانت الثلاثة دنانير يُعاقب عليها صاحبها، فكيف بمن خلَّف الملايين، ومئات الآلاف، ألا يخشى عقابها وعتابها، والتي سيحاسب عنها هللة هللة يوم القيامة، ولهذا كان العلماء لا يتركون شيئاً، خوفاً من العقاب، إذ كيف تموت وتخلف هذه الأموال الطائلة، ولا تنفقها في سبيل الله، والفقراء والمساكين، وسبل الخير الكثيرة تحتاج إلى صدقتك ومالك، فقدم لنفسك ما تنجو به يوم القيامة من عذاب الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: \" من أوكى على ذهب أو فضة، ولم ينفقه في سبيل الله، كان جمراً يوم القيامة يكوى به \" [حديث صحيح أخرجه أحمد والطبراني واللفظ له]، وعن انس - رضي الله عنه - قال: \" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدَّخر شيئاً لغد \" [أخرجه الترمذي بسند صحيح].
فعلى المسلم أن يكون سنداً لإخوانه، عوناً لهم على نوائب الدهر، ومصائب الزمان، ولا يتركهم فقراء محتاجين، وهو يتقلب في نعيم الدنيا ومتاعها، بل الواجب عليه أن ينفق ما آتاه الله من المال في وجوه البر، وأعمال الخير، ينفقها في سبيل الله، فهناك أبواب لا حصر لها في الإنفاق، حتى يكون يوم القيامة تحت ظل صدقته، قال - صلى الله عليه وسلم -: \" من أنظر معسراً، أو وضع له، أظله الله في ظله \" [أخرجه مسلم وغيره]، ومعنى الحديث: أن من كان له دين على شخص، فحل موعد السداد ولم يكن المدين مستطيعاً للسداد، فأنظره وتركه، وأعطاه مهلة أخرى للسداد، أو أنقص له من الدين الذي عليه لعله يسدد جزءاً منه، ويسامح عن الباقي، فإن الله يظله يوم القيامة تحت ظل عرشه.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \" إن رجلاً ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقال: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل: انظر، قال: ما أعلم شيئاً، غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا، فأُنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة \"، فتصدقوا على أنفسكم، ولا تبخلوا فتقعوا في المحذور والممنوع، وتحرموا أنفسكم جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، الذين ينفقون في السراء والضراء، ومهما صغرت الصدقة فهي عند الله عظيمة، لأنها امتثال لأمره - سبحانه -، واتباعاً لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه بعض الوقائع التي أُتحف بها الأسماع والأبصار، لنأخذ منها العظة والفائدة والقدوة الطيبة:
= شاب ينفق كل يوم زجاجة ماء بارد، يُسقي بها عمال النظافة في الشوارع، فيخرج في الجو الحار، يدخل الحارات ويتلمس العمال، فإذا وجد عاملاً منهكاً متعباً، ليس لديه ماء، قدم له زجاجة الماء وانصرف.
= شاب آخر يكفل يتيماً، يقدم له كل شهر مصروفاً يتكفل له بالطعام والشراب واللباس.
= زوجان تبنيا أُسرة فقيرة، ينفقان عليها أُجرة المنزل، وتكاليف الطعام والشراب، وكل مقتنيات الأسرة الأخرى، حتى تكاليف السيارة.
= شاب يتصدق كل يوم بريال واحد، وأفضل الأعمال على الله أدومها وإن قل.
= تاجر كبير، يذهب كل يوم لأسرة ويقدم لها كل ما تحتاجه بنفسه، رُغم مشاغله واهتماماته.
= أمير وكَّل أحد القضاة بمبلغ مائة ألف ريال كل سنة، لينفقه على المحتاجين، ووعدهم بالمزيد.
وحتى لا يُنسي آخر الكلام أوله، أكتفي بما كتبت، فلعل الله - تعالى -أن ينفعنا بما سمعنا وقرأنا، ونسأله - سبحانه - أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجري الخير على أيدنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد