غض البصر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أخواني وأخواتي تعلمون أن من عظيم نعمة الله - تعالى - علينا نعمة البصر، وبها امتن الله - تعالى - على خلقه في آياتٍ, كثيرة كقوله - سبحانه -: (وَاللَّهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لا تَعلَمُونَ شَيئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ) (النحل: 78).

وقال - تعالى -: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشكُرُونَ) (المؤمنون: 78)

وقال - تعالى -: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشكُرُونَ) (السجدة: 9)

وقال - تعالى -: (قُل هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشكُرُونَ) (الملك: 23)، وشكر هذه النعمة من أوجب الواجبات على العبد، حيث لا يكافئها عمل الليل والنهار وإن بلغ خمسمائة عام، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (خرج من عندي جبريل آنفا فقال: يا محمد، إن لله عبداً عبد الله خمسمائة سنة، على رأس جبل، والبحر محيط به، وأخرج له عيناً عذبة بعرض الأصبع، تفيض بماء عذب، وشجرة رمان تخرج كل ليلة رمانة، فيتغذى بها، فإذا أمسى نزل وأصاب من الوضوء، ثم قام لصلاته، فسأل ربه أن يقبضه ساجداً، وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء يفسده عليه سبيلاً حتى يبعث ساجدا، ففعل فنحن نمر به إذا هبطنا وإذا عرجنا وأنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله فيقول: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي يا رب، فيقول للملائكة: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فتوزن، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وتبقى نعمة الجسد فضلا عليه، فيقول: ادخلوه النار، فينادي: يا رب برحمتك، فيقول: ردوه، فيوقف بين يديه، فيقول: من خلقك ولم تك شيئا؟، فيقول: أنت يا رب، فيقول: أكان ذلك من قبلك أم برحمتي؟، فيقول: برحمتك، فيقول: أدخلوه الجنة برحمتي) رواه الحاكم في \" المستدرك \" والحكيم الترمذي في \" النوادر \".

إذا عُلم هذا أخواني وأخواتي بارك الله فيهم تحتم علينا جميعاً أن نستحي من صاحب هذه النعمة، وأن نراقبه فيها فلا ننظر إلى ما حرّم الله، وأن نسخرها فيما يرضي الله عنا، ونعلم أننا غداً سوف نُسئل عما رأيناه بأبصارنا قال - تعالى -: (إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسؤُولاً)(الإسراء: من الآية36).

إخواني وأخواتي: قال الله - تعالى -: (قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضٌّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصنَعُونَ * وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ) الآية (النور: 30-31).

وهذا أمر رباني عام للرجال والنساء بغض الأبصار عمّا حرّم الله - تعالى - عليهم، والمراد غض البصر عن العورة وعن محل الشهوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: \" قد أمر الله في كتابه بغضّ البصر، وهو نوعان: غضّ البصر عن العورة، وغضّه عن محلّ الشهوة. فالأول منهما كغضّ الرجل بصره عن عورة غيره، كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة)، ويجب على الإنسان أن يستر عورته....وأمّا النوع الثاني: فهو غضّ البصر عن الزينة الباطنة من المرأة الأجنبية، وهو أشدّ من الأول\" [الفتاوى: 414).

وكلا هذين النوعين مما يلفت الفروج بالوقوع في المحظور من الزنى واللواط شاء الإنسان أم أبى!، ولهذا عقّب الله - تعالى - بذكر حفظ الفروج بعد الأمر بغض البصر، وقد قال أهل العلم والعقل: (أن مبدأ طريق الزنى بنظرة!)، وجاء وصفها بأنها سهم من سهام إبليس يصاب بها المرء فيقع في مصيدته!.

والأمر في الآية للوجوب، لا صارف له عن محارم الله - تعالى -، وعلى ذلك فمن أفرط بصره ونظر به إلى المحرمات فقد وقع في محاذير كثيرة: منها:

 

 

 

1- مخالفة الله - جبار السموات والأرضين في أمره ونهيه، ومخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمره ونهيه، والله - تعالى - يقول: (قُل أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبٌّ الكَافِرِينَ) (آل عمران: 32)، ويقول: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ) (آل عمران: 132)، ويقول: (يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبطِلُوا أَعمَالَكُم) (محمد: 33)، ويقول - تعالى -: (فَليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: من الآية63).

فمن منّا عباد الله يحب أن يكون من الكافرين بأمر الله ونواهيه؟!.

ومن منّا في غنى عن رحمة الله ولطفه حتى يعصيه؟!.

ومن منّا يسعى بيده لخراب بيت أعماله الصالحات بمعول المعاصي والذنوب؟!.

ومن منّا يتحمل الفتنة وهي الإشراك بالله أو يتحمل العذاب الأليم بعد أن هداه للتوحيد والإسلام مقلب القلوب؟!.

2ـ أيضاً من المحاذير الواقعة من النظر إلى المحرمات والعورات: الوقوع في الزنى واللواط، ومشين الأخلاق والطباع، ولهذا سمي النظر إلى المحرمات زنى كما جاء في الحديث الصحيح: (العين تزني وزناها النظر، وفي آخره: والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).

 

قال الشاعر:

 

كل الحوادث مبدأها من النظـر   ***   ومعظم النّار من مستصغر الشررِ

 

كـم نظرةٍ, بلغت من قلبِ صاحبها   ***  كمبلغ السهم بـلا قوسٍ, ولا وترِ

 

والعبـد ما دام ذا طـرفٍ, يُقلّبـه      ***   في أعين الغيدِ موقوفٌ على الخطرِ

 

يسـرُ مقلتَه مـا ضـرَّ مُهجتـَه        ***        لا مرحبًا بسـرورٍ, عاد بالضررِ

 

3ـ أيضاً من المحاذير: الاستهانة بالمنكر المنظور إليه، فمن تلذذ بالنظر إلى منكرٍ, من المنكرات لا يبعد أن يتلذذ بفعله ولو بعد حين لأن أمره هان عنده، والمؤمن الموحد إجلالاً لله وأمره، واحتراما لرسول الله وشرعه: لا يقوى قلبه على رؤية ما يبغضه الله ورسوله!.

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل عليه رسولي كسرى وقد حلقا لحيتيهما: فصد عنهم ببصره، وقال: من أمركما بذلك؟، فقالاً: أمرنا ربنا يعنيان كسرى -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فأمرني ربي بأن أعفي لحيتي وأحف شاربي).

ويروي بعض السلف كان إذا مرّ أمامه نصرانياً أغمض عينيه!، فقيل له: لماذا تصنع ذلك؟ فقال: لا أستطيع أن أنظر لمن يسب الله).

قلت: أي بالكفر به - سبحانه -.

وسئل بعض السلف: كيف أصبحت؟، فقال: بشر حال!، وقعت عيني على صاحب بدعة اليوم!.

فكيف يليق بالمسلم أن يطلق النظر إلى الماجنين والماجنات، أو إلى صور المنكرات، أو الفواحش بأنواعها: استمتاعاً، وتلذذاً، وهو مأمور بأن يجانب أرض الفساد وأهله!، فكيف بالتلذذ والاستمتاع به، فكيف بمن يستأنس بذلك الساعات الطوال في التلفاز وتصفح المجلات أو اكتنازها وربما تعليقها على عرض الحائط!.

 

4- أيضاً من المحاذير: فساد القلب، وانتكاس الأمزجة، وتبدل الفِطَر، ولهذا تجد من يستمع بالنظر إلى المحرمات لا يتعمر وجهه عند رؤية: وثن يعبد، أو صليب معلّق، أو امرأة متهتكة سافرة، بل ربما هلك وزلق وقال: بأن الأمر عادي! أو طبيعي!، فهان في نظره ما يسخط الله - تعالى - ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

ولنتأمل يا أخواني وأخواتي أنفسنا اليوم في منكرات انتشرت بيننا: وليكن منكر (حلق اللحى وإسبال الإزار) فلانتشارها بين الرجال، وتبلد أحاسيسنا بالنظر إلى هذه الشناعة صباح مساء، أصبح لسان حالنا أن الأمر لا نكارة فيه: نتحدث معهم، نضاحكهم، و نشاربهم، و نؤانسهم، وكأن الأمر هيّن وهو عند الله عظيم.

ورضي الله عن ابن عمر عندما قال: (إنكم لتعملون أعمالا كنا نعدها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات!).

أليس حلق اللحى من شأن المشركين واليهود والنصارى؟.

ألم يأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفتهم؟.

أوليس مسبل إزاره متوعد بأن لا يكلمه الله ولا يزكيه وله عذاب عظيم يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح. أوليس هذا منكر يجب أن لا نجالس صاحبه إن استمر عليه مهما يكن من شي؟!.

روى الإمام أحمد و أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان: الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ) إلى قوله: (فَاسِقُونَ) (المائدة: 78-81)، ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا).

فما الذي جعل القلوب تموت، والأمزجة تنتكس، والفطر تفسد: غير فرط النظر للمحرمات، والله المستعان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"فالنّظر داعية إلى فساد القلب، قال بعض السلف: النظر سهمُ سمٍّ, إلى القلب\" [الفتاوى: 15/395].

وقال - رحمه الله -: (وقوله - سبحانه -: (لا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجاً مِنهُم وَلا تَحزَن عَلَيهِم وَاخفِض جَنَاحَكَ لِلمُؤمِنِينَ) (الحجر: 88) يتناول النظر إلى الأموال واللباس والصور وغير ذلك من متاع الدنيا.... وذلك أن الله يمتع بالصور كما يمتع بالأموال، وكلامها زهرة الحياة الدنيا، وكلاهما يفتن أهله وأصحابه، وربما أفضى به إلى الهلاك دنيا وأخرى) (الفتاوى: 15/398).

فهذه بعض محاذير سنحت في فكرتي مع هذه العجالة، فكيف يستهان بواحدة منها فينظر فيما حرّم الله - تعالى -. ولفشو المنكرات اليوم والله المستعان تحتم على المسلم أن يجتهد في غض بصره عن كل ما حرّم الله النظر إليه، وخاصة النساء والمردان، فإن ابليس ينصب رأيته عند ذلك، ويدعوك على النظر إليها.

قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (الشيطان من الرجل في ثلاثة: في نظره وقلبه وذَكَره، وهو من المرأة في ثلاثة: في بصرها وقلبها وعجُزها).

وقال مجاهد: (إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزَّينها لمن ينظر، فإذا أدبرت جلس على عجُزها، فزينها لمن ينظر).

وقال سفيان الثوري: (إن مع كل امرأة شيطاناً، وأرى مع الشاب الأمرد بضعة عشر شيطانا).

فيجتهد المسلم في صرف بصره عن النظر إلى المحرمات، وإذا بلي بأن تكون محل إقامته في أرض يكثر فيها الفساد وتكشف النساء: فليجتهد في غض الطرف أكثر، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.

قال سعيد بن أبي الحسن: قلتُ للحسن: إنّ نساء العجم يكشفن صدورهنّ ورؤوسهنّ، قال: اصرف بصرك، يقول الله - تعالى -: (قُل لّلمُؤمِنِينَ يَغُضٌّوا مِن أَبصَـارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم) (النور: 30)

 

وليعلم أن الأمر بغض البصر كما تقدم الإشارة إليه عام للرجال والنساء، فالمرأة مأمورة بغض بصرها عن محارم الله - تعالى -، وعن الصور والأفلام، وقد أجمع العلماء على حرمة نظر النساء للرجال بشهوة، واختلفوا في مجرد الرؤية بدون شهوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (15/396): (وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة).

فكيف بحال من: تعشق صور مشاهير الرجال، وتتمعن في جمال هذا وذاك، وتراهن على أن زيداً أجمل من عمرو، وربما علّقت صورته في بيتها أو حفظتها في جهاز الكمبيوتر وجعلتها خلفية لشاشتها أو رمزاً لتوقيعها!!، أو على شاشة هاتفها الجوال، وغير ذلك من سخافات العقول قبل أن تكون مصادمة المنقول، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم.

تنبيه وفائدة: حذر العلماء من النظر للمحرمات، وكذلك من فرط النظر إلى ما لا حاجة له، ويسمى (فضول النظر) وذلك أن فيه شتات الذهن، وعدم استقراره، ولهذا نرى أن أقوى الناس حفظاً وذاكرة، وأرقهم طبعاً، هم أقلّ الناس نظراً، ولهذا من بلي بسلب هذه النعمة تقوى في الغالب عنده حافظته، وذاكرته، ويتسم بهدوء الطبع، ولن نرى ذلك في أنفسنا أن الإنسان في ساعات تذبذب الذهن وشروده: يفزع لإغماض عينيه، وكذا عندما ينسى شيئاً قد حفظه يغمض عينيه، كل ذلك لتثبت الذهن وعدم شتاته.

ونسأل الله لنا ولكم إخواني وأخواتي صلاح القول والعمل، وسلامة الظهار والباطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply