في ظلال قول الله : \ لله ما في السماوات وما في الأرض \


بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما

أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: نعيش اليوم في ظلال آية، أو على الأصح في ظلال جزء من آية، نتفيؤه، نستقي من رحيقه شفاء صدورنا، وذهاب همومنا، وطب قلوبنا، وجلاء أسقامنا. هذه الآية يحفظها الكثيرون، أو الأكثرون، ويرددونها، ويعلم أصلها كل المسلمين، ويعتقدونه، فقولنا هنا تذكير، محاولة للتدبر، وجهد المقل للتذكر، وليس فيه إحصاء أو حصر للفائدة، ولكنه صيد من مكنون البحار، ستفيد الصياد، ولا ينقص البحر. وصدق علي - رضي الله عنه - إذ يقول عن القرآن: ولا تنقضي عجائبه.

 

أيها الأحبة: مما ورد في كتاب الله - تعالى -في غير ما آية منه على اختلاف الألفاظ فيه قوله - تعالى -: لله ما في السماوات وما في الأرض. وكم في هذا التعبير، وهذا التأصيل من فوائد لو تأملناها، وفهمناها، وعملنا بما تقتضيه وتدل عليه.

 

فمن مقاصدها ومدلولاتها التوحيد بكل أنواعه، وأقسامه، فالملك الحق للسماوات والأرض وما فيهن هو المستحق للعبادة وحدة، كما انفرد بالملك وحده. فمن ذا غيره يملك السماوات والأرض؟ ومن ذا غيره له ما بينهما؟ قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله! قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله! قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون! سيقولون لله! قل فأنى تسحرون؟

 

فتأمل معناها، ينكشف لك الحجاب عن مبناها، وتدلك على أن المالك للسماوات والأرض وما فيهن هو الحقيق بأن ترفع إليه الحاجات، وهو القادر على أن ينفعك أو يضرك، والقادر على أن يخفضك أو يرفعك. فاستحق توحيد العبادة كل استحقاق. فلا تسأل غيره، ولا تطلب غيره، ولا تخف من غيره، ولا ترج غيره، ولا تخش غيره.

 

وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. يقول - عليه الصلاة والسلام - لابن عباس - رضي الله عنهما -: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك.

 

إن ثبات الملكية للسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما لله - تعالى -كاشف، معلن بأن كل ما سواه فهو له، ملكه، عبده، مفتقر إليه في كل لحظاته، وسكناته، في كل نفس يخرج من جوفه أو يدخل إليه.

 

والعبودية لله - تعالى - تخرجك أيها الفقير من عبودية غيره، وتعطيك الحرية الحقيقية من رق الهوى، والنفس وشياطين الإنس والجن.

 

ومن مدلولات قوله - تعالى -: لله ما في السماوات وما في الأرض توحيد الأسماء والصفات، فالملك لهذا الكون بكل تفاصيله وأجرامه وبروجه، المتصرف فيه على هذا الوجه من الدقة والإحكام لا بد أن يكون قادرا، عالما، حكيما، قويا عزيزا، إلى آخر صفات الكمال المتصف بها جل جلاله. إذ إن الكون وما فيه دليل وحدانيته وتفرده بالأسماء الحسنى والصفات العلى، \" قال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين \".

إخوة الدين والعقيدة: من مدلولات قوله - تعالى -: \" لله ما في السماوات وما في الأرض \"، تحقيق الخوف والرجاء، فالخوف من الملك لكل شيء القادر على كل شيء، ورجاؤه ثمرة للمعرفة واليقين بأنه مالك السماوات والأرض وما فيهن، وهذا الضعيف المتفكر في ذلك جزء لا يكاد يعلم به أحد من أهل الأرض، ملك للملك الحق المبين والملك لكل ذلك يطمع فيه أهل الفقر والضعف أمثالنا، ويخافه أهل الغفلة والذنوب أمثالنا، فيتحقق بالإيمان بذلك الملك خوفه ورجاؤه. فلا يمكن للمحقق لهذا المعنى في قلبه أن يعصي الله طرفة عين، فهو بعيد كل البعد عن محارم مالكه، ينظر في مصلحته، وما يقتضيه وجوده من توحيده وعبادته، وما يطمع فيه من ثوابه ورضاه وجنته.

 

عباد الله: من ثمرات قوله - تعالى -: \" لله ما في السماوات وما في الأرض \": معنى لو تأملته لحمدت أثره، وكسى ذهنك حبره، فمتى علمت أن لله ما في السماوات وما في الأرض لم يدخل الحسد قلبك، فالملك لله وحده، يعطي ويمنع، فمن أعطاه الله شيئا فمن ملكه، ومن منعه الله شيئا فمن ملكه، ولست على ما في يد الله قادرا، وهذا من أنجع الأدوية للحسد إذا إن الحسد مبني على الاعتراض على حكمة الله - تعالى - في المنع والعطاء.

 

وعلى العكس من ذلك، فالآية حاثة على الكرم والسخاء، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وما ذلك العطاء منه - صلى الله عليه وسلم - إلا لأنه يوقن بأن لله ما في السماوات وما في الأرض، وأن خزائنه ملأى لا تغيضها النفقة فأعط عبد الله، وأنفق، وجد على الناس فمليكك يملك السماوات والأرض وما فيهما، وما بينهما ولا تخش من ذي العرش إقلالا.

وإن كنت تؤمن بأن لله ما في السماوات وما في الأرض، فاعبده وتوكل عليه، وارض بما قسم لك، واصبر على ما قضى عليك، وثق أن الحكيم المدبر لهذا الكون لم يخلقه عبثا، ولن يتركه سدى، فإليه المرجع والمعاد، ويوما ما ستمضي إليه، وستقف بين يديه، وسيسألك عن الأمانة في عبادته، وفيما ولاك عليه، فجهز الجواب، وليكن نصب عينيك أنه شديد العقاب، سريع الحساب، ولا يغب عن قلبك أنه يفتح رحمته لكل من طرق بابه، وخشيه، وخاف عقابه، وانطرح بين يديه راجيا ثوابه، فأكثر من قرع الباب، وابذل لنجاتك ما استطعت من الأسباب.

فالمالك للسماوات والأرض المتصرف فيهما كيف يشاء حكيم عليم، والحكمة تقتضي الجزاء، فمن أخطأ عوقب، ومن أحسن فقد تعرض للثناء، ولما كان الناس في دنياهم يتظالمون، ويعرض بعضهم عن ربه، وبه يكفرون، ثم يموتون فكان من مقتضى الحكمة أن يجعل لهم موعدا فيه يختصمون، وتعرض أعمالهم ويتحاكمون، فدلت الآية ضمنا، على يوم البعث، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.

فمن ملك الكون كله، ودبره وصرفه، ودل الكون على وحدانيته، لا بد لأن يجمع الناس ليوم يتناصفون فيه، فيأخذ الحق ممن بغى لمن بغي عليه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.

أيها المسلمون: من ثمرات قوله - تعالى -: لله ما في السماوات وما في الأرض، الإيمان بالرسل، وتصديقهم، والعمل بما جاؤوا به من شرائع، فالمالك لا بد أن يتعرف على عبيده، وأن يعرفهم كيف يعبدونه، وكيف يوحدونه، وماذا يريد منهم، وماذا يكره منهم، فيعملون بمقتضى إرادته، عملا وتركا وليس ذلك إلا عن طريق الرسل، فدلت الآية على حاجة الناس ضرورة إليهم، وإلى من ينوب عنهم من العلماء الربانيين، والأئمة المصلحين.

ومن مدلولاتها أيضا ما جاء في آخر سورة البقرة مفتتحا بها، ومنوها من لدن الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بفضلها، ومنزلتها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه، متفق عليه. وهي كنز من تحت العرش أوتيه - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه أحمد من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

\"لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير، آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير \".

 

أيها الأحبة: هل تعرفون حبة الأرز!!! لا تميز، ولا وزن لها عندنا، ولو قدمتها لجائع لا تغني عنه شيئا، ولكن استمع إلى الحق- تبارك وتعالى -وهو يقول: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين. وحبة الخردل مثل السمسمة، وهي أصغر بكثير من حبة الأرز.

فيوم القيامة توزن الأعمال، حتى مثاقيل الذر، فالذرة التي لا تشعر بها قد تدخلك الجنة، أو تحرمك منها، والذرة التي لا تشعر بها قد تخلد المرء في نار الجحيم عياذا بالله.

في الحديث الصحيح يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله - تعالى -يوم القيامة لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، في حديث الشفاعة: انطلق فأخرج منها أي النار من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، قال - عليه الصلاة والسلام -: فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأنطلق فافعل. الحديث رواه البخاري ومسلم.

وفي الحديث الصحيح أيضا: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.

وفي سورة النساء: إن الله لا يظلم مثقال ذرة.

فهذه الذرة، والخردلة، التي لا نكاد نراها، ولا نشعر بها تهلكنا حينا، وتنجينا حينا، فإياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply