بسم الله الرحمن الرحيم
\"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما (18) {النساء: 17، 18}.
في القرآن الكريم نقرأ عن التوبة آيات عدة، من ذلك قوله - تعالى -: \"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب\" 17 {النساء: 17} وهذه الآية قطعاً من الله - تعالى - بقبول توبة العبد إذا تاب من قريب وهي عامة مثل قوله - تعالى -: \"قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا\" 53 {الزمر: 53} دعوة لجميع العصاة من الكفار وغيرهم إلى التوبة والإنابة، ومنها أيضاً قوله عز من قائل: \"وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات\" 25 {الشورى: 25} وقوله جل علاه: \"ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده\" 104 {التوبة: 104}.
قال أهل العلم: واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله - تعالى -: \"وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون\" 31 {النور: 31}(1).
وأمر التوبة في الإسلام أمر عظيم، فهي نعمة جليلة أنعم الله بها على عباده، إذ منحهم فرصة لمراجعة الحساب، وتدارك ما فات، والأوبة إلى ما فيه نجاتهم من المهلكات.
فضائل التوبة:
للتوبة فضائل منها:
1- إن من أعظم فضائل التوبة تبديل السيئات حسنات. قال الله - تعالى -: \"إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً\" 70 {الفرقان: 70}. فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
2- حب الله للتائبين: قال - تعالى -: \"إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين\" 222 {البقرة: 222}، يقول ابن القيم - رحمه الله -: \"وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من الأفعال ما أمر بها وترك ما نهى عنه، ويقول في تعريف التوبة: هي الرجوع عما يكره الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً\"أ. ه(2).
3- فرح الله بتوبة عبده: عن أبي حمزة أنس بن مالك الأنصاري- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعير، وقد أضله في أرض فلاة\"(3) وفي رواية للإمام مسلم: \"لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فأضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح\"(4).
4- إن التوبة طريق الفلاح: فالتوبة هي طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، قال - تعالى -: \"وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون\" 31 {النور: 31}.
فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -وترك ما نهى الله ورسوله عنه، والله - تعالى -هو المستعان.
5- أنها سبب لدخول الجنات: قال - تعالى -: \"يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا\" {التحريم: 8}، أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
شروط التوبة النصوح:
1- الإقلاع عن الذنب.
2- الندم على فعله.
3- العزم على عدم العودة إليه.
وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فلا بد من إرجاع الحقوق إلى أصحابها.
وأعلم أن المغفرة لا تحصل للعبد إلا إذا حقق التوبة: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم \\هتدى\" 82 {طه: 82}.
الآثار المترتبة على التوبة:
1- غفران الذنوب وتبديل السيئات إلى حسنات، قال - تعالى -: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما 70 {الفرقان: 70}.
2- التوبة سبب للحياة السعيدة، قال جل جلاله: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى\" أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله3 {هود: 3}.
3- التوبة سبب في سعة الرزق، قال - تعالى -على لسان نوح: \"فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا 10 يرسل السماء عليكم مدرارا 11 ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا 12\" {نوح: 10 - 12}.
4- التوبة سبب لفلاح العبد في الدنيا والآخرة فقد قال - تعالى -: \"فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين 67\" {القصص: 67} أي في يوم القيامة وعسى من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة.
وقت التوبة:
من رحمة الله - تعالى -أن فتح باب التوبة ما دامت الشمس تطلع من مشرقها ما لم يغرغر العبد بالموت، والعبد يحتاج إلى التوبة في الليل وفي النهار لما روى أبو موسى الأشعري- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: \"إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها\"(5).
والآيات التي صدرنا بها مقالنا - وموضوعها التوبة - هي وجهتنا في هذا المقال، فنقول: في قوله - تعالى -: \"إنما التوبة على الله\" تأكيد ووعد من الله - تعالى -بقبول التوبة من عباده الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والمعاصي، كبيرها وصغيرها، حتى جعلت كالحق على الله - سبحانه -، ولا شيء عليه واجب إلا ما أوجبه - جل وعلا - على نفسه.
ثم إن الجهالة الواردة في الآية: يعملون السوء بجهالة هي كل من عصى الله خطأ أو عمداً، فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب كما ذكر ذلك مجاهد وغير واحد، وقال قتادة عن أبي العالية: إنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كانوا يقولون: \"كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة\" رواه ابن جرير وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: \"اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة عمداً كان أو غيره\"(6).
ومعنى قوله - تعالى -: من قريب أن يبادر المذنب والعاصي إلى التوبة بعد فعل المعصية، من غير أن يتمادى في غيه ومعصيته ما لم يغرغر والدنيا كلها قريب. وهو بمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"واتبع السيئة الحسنة تمحها\"(7).
أما قوله عز شأنه في الآية التالية: وليست التوبة للذين يعملون السيئات 18 {النساء: 18} فهو تنبيه منه - سبحانه - على نفي قبول نوع من التوبة، وهي التي تكون عند حضور الموت واليأس من الحياة حتى\" إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن 18 {النساء: 18} إذ المطلوب من العبد حال توبته أن يقرن العمل بالقول كما ذكرنا ذلك سابقاً، وقد وردت أحاديث عدة تؤكد هذا المعنى وتوضحه، من ذلك: ما جاء عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: \"إن الله- تبارك وتعالى -يقبل توبة العبد ما لم يغرغر\"(8).
وإذا كانت التوبة في آية النساء الأولى: \"إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما عامة لكل من عمل ذنباً فإن الآية الثانية حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما\" قد خصص هذا العموم حال حضور الموت وعند النزع إذ لا تجدي التوبة حينئذ. وقد يشكل على بعض الناس ما جاء في سورة النساء نفسها وهو قوله - تعالى -: \"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء\" فظاهر الآية أن الله - سبحانه - يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك فإنه لا يغفره، وهذا الإطلاق في الآية مقيد في حال مات العبد وهو مشرك بالله، فإن مغفرة الله لا تناله من قريب ولا من بعيد، لكن إن تاب العبد من شركه قبل موته فإن الله يقبل التوبة من عباده.
قال ابن كثير - رحمه الله -: أخبر - تعالى - أنه لا يغفر أن يشرك بهº أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك، أي من الذنوب لمن يشاء، أي من عباده، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: \"إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك، يا عبدي إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة\"(9).
وقد أجمع المسلمون كلهم، على أن التوبة من الكفر، والإقرار بالإيمان، مستوجب لمغفرة الله - تعالى -، وأن الموت على الكفر مطلقاً لا يغفر بلا شك، وأجمعوا كذلك على أن المذنب إذا تاب يغفر ذنبه إذا استجمع شروط التوبة المقبولة، أما إذا مات صاحب الكبيرة مصراً عليها وهو غير مشرك، فآية النساء وغيرها من الأدلة تدل على أنه تحت مشيئة الله - سبحانه - إن شاء عفا عنه برحمته وعفوه أو بشفاعة الشافعين، أو بماله من أعمال صالحة أخرى كانت تجري عليه وهو في قبره كعلم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو أولاد يدعون له، وإن شاء عذبه بعدله وقسطه ومآله بعد عقابه إلى رحمة الله - تعالى -وجنته لأنه مات على التوحيد.
_________________
الهوامش:
1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (90/5).
2- مدارج السالكين لابن القيم (306/1).
3- أخرجه البخاري (92/11-93).
4- أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب الحض على التوبة (2747).
5- أخرجه مسلم في كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة (2759).
6- تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (615/4)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد ابن جرير الطبري (298/4، 299).
7- أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.
8- أخرجه ابن ماجه وأحمد والترمذي وصححه ابن حبان، يغرغر: تصل روحه إلى الحلقوم.
9- تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (677/1)، والحديث الذي ذكره ابن كثير أخرجه الترمذي وقال:حديث حسن (3534).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد