أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إذا كان الإيمان الصحيح - كما جاءنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه السعادة العاجلة والآجلة. وأنه يصلح الظاهر والباطن، والعقائد، والأخلاق، والآداب. وأنه يدعو جميع العباد إلى ما فيه من كل خير وصلاح، ويهدي للتي هي أقوم.

فإذا كان الأمر كما ذكرناº فلم أكثر الناس عن الدين والإيمان معرضون، وله محاربون، ومنه ساخرون؟ وهلا كان الأمر بالعكسº لأن الناس لهم عقول وأذهان تختار الصالح على الطالح، والخير على الشر، والنافع على الضار؟

 

نعم كان من المفروض أن يكون الأمر كذلك! واعلم أن الله - تعالى- قد ذكر هذا الإيراد في كتابه العزيز، وأجاب عنه بذكر الأسباب الواقعة، وبالموانع العائقة، وبذكر الأجوبة عن هذا الإيراد فلا يهول العبد ما يراه من إعراض أكثر البشر عنه، ولا يستغرب ذلكº فقد ذكر الله - عز وجل - من أسباب عدم الإيمان بالدينº موانع عديدة، واقعة من جمهور البشر، منها:

 

1- الجهل بالإيمان: وعدم معرفته حقيقة، وعدم الوقوف على تعاليمه العالية، وإرشاداته السامية. والجهل بالعلوم النافعةº أكبر عائق، وأعظم مانع من الوصول إلى الحقائق الصحيحة، والأخلاق الحميدة، قال - تعالى -: {بَل كَذَّبُوا بِمَا لَم يُحِيطُوا بِعِلمِهِ وَلَمَّا يَأتِهِم تَأوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس: 39]. وقال: {وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم يَجهَلُونَ} [سورة الأنعام: 111]. وقال: {وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لَا يَعلَمُونَ}[سورة الأنعام: 37].

 

والجهل إما أن يكون بسيطاً: كحال كثير من دهماء المكذبين للرسول، الرادين لدعوتهº اتباعاً لرؤسائهم وساداتهم، وهم الذين يقولون إذا مسهم العذاب: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلٌّونَا السَّبِيلَ}[سورة الأحزاب: 67].

 

وإما أن يكون الجهل مركباًº وهذا على نوعين:

أحدهما: أن يكون على دين قومه وآبائه، ومن هو ناشئ معهم، فيأتيه الحق فلا ينظر فيه، وإن نظر فنظر قاصر جداً لرضاه بدينه الذي نشأ عليه، وتعصبه لقومه، وهؤلاء جمهور المكذبين للرسل، الرادين لدعوتهم، الذين قال الله فيهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ فِي قَريَةٍ, مِن نَذِيرٍ, إِلَّا قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ, وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُقتَدُونَ} [سورة الزخرف: 23]. وهذا هو التقليد الأعمىº الذي يظن صاحبه أنه على حق، وهو على الباطل.

ويدخل في هذا النوع: أكثر الملحدين الماديينº فإن علومهم عند التحقيق تقليد لزعمائهمº إذا قالوا مقالة قبلوها كأنها وحي منزل، وإذا ابتكروا نظرية خاطئة سلكوا خلفهم في حال اتفاقهم وحال تناقضهم، وهؤلاء فتنة لكل مفتون لا بصيرة له.

 

النوع الثاني من الجهل المركب: حالة أئمة الكفر وزعماء الملحدين الذين مهروا في علوم الطبيعة والكون، واستجهلوا غيرهم، وحصروا المعلومات في معارفهم الضئيلة الضيقة الدائرة، واستكبروا على الرسل وأتباعهم. وزعموا أن العلوم محصورة فيما وصلت إليه الحواس والتجارب البشرية، وما سوى ذلك أنكروه، وكذبوه مهما كان من الحقº فأنكروا رب العالمين، وكذبوا رسله، وكذبوا بما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب كلها. وهؤلاء أحق الناس بالدخول تحت قوله - تعالى -: { فَلَمَّا جَاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ} [سورة غافر: 83].

 ففرحهم بعلومهم - علوم الطبيعة - ومهارتهم فيها هو السبب الأقوى الذي أوجب لهم تمسكهم بما معهم من الباطل، وفرحهم بها يقتضي تفضيلهم لها، ومدحهم لها وتقديمها على ما جاءت به الرسل من الهدى والعلمº بل لم يكفهم هذه الحالº حتى وصلوا إلى الاستهزاء بعلوم الرسل واستهجانها، وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزؤن.

 

ولقد انخدع لهؤلاء الملحدين كثير من المشتغلين بالعلوم العصرية التي لم يصحبها دين صحيح، والعهدة في ذلك على المدارس التي لم تهتم بالتعاليم الدينية العاصمة من هذا الإلحاد. فإن التلميذ إذا تخرج فيها ولم يمهر في العلوم الدينية، ولا تخلق بالأخلاق الشرعية، ورأى نفسه أنه يعرف ما لا يعرفه غيرهº احتقر الدين وأهله، وسهل عليه الانقياد لهؤلاء الملحدين الماديين. وهذا أكبر ضرر ضرب به الدين الإسلامي.

 

2- الحسد والبغي: كحال اليهود الذين يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقه وحقيقة ما جاء به كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم يكتمون الحق وهم يعلمونº تقديماً للأغراض الدنيوية، والمطالب السفلية على نعمة الإيمان. وقد منع هذا الداء كثيراً من رؤساء قريش كما هو معروف من أخبارهم وسيرهم، وهذا الداء في حقيقة الأمر ناشئ عن داء آخر، وهو الكبر.

 

3- الكبر: الذي هو أعظم الموانع من إتباع الحق، قال - تعالى -: {سَأَصرِفُ عَن آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ, لَا يُؤمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الرٌّشدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنهَا غَافِلِينَ} [سورة الأعراف: 146].

فالتكبر - الذي هو رد الحق واحتقار الخلق - منع خلقاً كثيراً من إتباع الحق والانقياد له بعد ما ظهرت آياته وبراهينه، قال - تعالى -: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاستَيقَنَتهَا أَنفُسُهُم ظُلمًا وَعُلُوًّا فَانظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفسِدِينَ} [سورة النمل: 14].

 

4- الإعراض عن الحق والإيمان: الإعراض عن الأدلة السمعية، والأدلة العقلية الصحيحةº من أهم موانع الإيمان، قال - تعالى -: {وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَنِ نُقَيِّض لَهُ شَيطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[36]وَإِنَّهُم لَيَصُدٌّونَهُم عَنِ السَّبِيلِ وَيَحسَبُونَ أَنَّهُم مُهتَدُونَ} [سورة الزخرف: 37]. وقال: {وَقَالُوا لَو كُنَّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصحَابِ السَّعِيرِ} [سورة الملك: 10]. فلم يكن لأمثال هؤلاء الذين اعترفوا بعدم عقلهم وسمعهم النافع رغبة في علوم الرسل، والكتب المنزلة من الله، ولا عقول صحيحة يهتدون بها إلى الصواب، وإنما لهم آراء ونظريات خاطئة يظنونها عقليات، وهي جهالات ولهم اقتداء خلف زعماء الضلال منعهم من إتباع الحقº حتى وردوا نار جهنم، فبئس مثوى المتكبرين.

 

5- رد الإيمان بعد معرفته: فيعاقب العبد بانقلاب قلبه ورؤيته الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قال - تعالى -: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم وَاللَّهُ لَا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ} [سورة الصف: 5]. لأن الجزاء من جنس العمل.

 

6- الانغماس في الترف، والإسراف في التنعم: فإنه يجعل العبد تابعاً لهواه، منقاداً للشهوات الضارة، كما ذكر الله هذا المانع في عدة آيات، مثل قوله: {بَل مَتَّعنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُم حَتَّى طَالَ عَلَيهِمُ العُمُرُ...} [سورة الأنبياء: 44].وقوله: {إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُترَفِينَ} [سورة الواقعة: 45]. فلما جاءتهم الأديان الصحيحة بما يعدل ترفهم، ويوقفهم على الحد النافع، ويمنعهم من الانهماك الضار في اللذاتº رأوا ذلك صاداً لهم عن مؤاداتهم.

وصاحب الهوى الباطل ينصر هواه بكل وسيلة. لما جاءهم الدين بوجوب عبادة الله، وشكر المنعم على نعمه، وعدم الانهماك في الشهواتº ولو على أدبارهم نفورًا.

 

7- احتقار الحق وأهله: احتقار المكذبين للرسل - عليهم السلام - وأتباعهم، واعتقاد نقصهم، والتهكم بهم، والتكبر عليهمº من الموانع الصادة عن وصول الإيمان إلى القلبº كما قالوا لنوح - عليه السلام -: {أَنُؤمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرذَلُونَ} [سورة الشعراء: 111]. وهذا الداء منشؤه من الكبرº فإذا تكبر وتعاظم في نفسه، واحتقر غيرهº اشمأز من قبول ما جاء به من الحقº حتى لو فرض أن هذا الذي رده جاءه من طريق من يعظمه لقبله بلا تردد.

 

8- الفسق: فالفسق أكبر مانع من قبول الحق علماً وعملاً، قال - تعالى -: {كَذَلِكَ حَقَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُم لَا يُؤمِنُونَ}[سورة يونس: 33]. والفسق: هو خروج العبد عن طاعة الله إلى طاعة الشيطان.

والله - تعالى -لا يزكي من كان هذه حالهº بل يكله إلى نفسه الظالمة، فتجول في الباطل عناداً وضلالاً، وتكون حركاته كلها شراً وفساداًº فالفسق يقرنه الباطل، ويصده عن الحقº لأن القلب متى خرج عن الانقياد لله والخضوعº فلابد أن ينقاد لكل شيطان مريد: {كُتِبَ عَلَيهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلٌّهُ وَيَهدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة الحج: 4].

 

9- حصر العلوم والحقائق في دائرة ضيقة: كما فعل ملاحدة الماديين في حصرهم العلوم بمدركات الحسº فما أدركوه بحواسهم أثبتوه، وما لم يدركوه بها نفوه، ولو ثبت بطرق وبراهين أعظم بكثير، وأوضح وأجلى من مدركات الحس، وهذه فتنة وشبهةº ضل بها خلق كثير. ولكن المؤمن البصير يعرف بنور بصيرته أنهم في ضلال مبين.

 

10- تجرء الماديين ومن تبعهم من المغرورين: زعم هؤلاء الماديون: أن البشر لم يبلغوا الرشد، ونضوج العقل إلا في هذه الأوقات التي طغت فيها المادة، وعلوم الطبيعة، وأنهم قبل ذلك لم يبلغوا الرشد. وهذا فيه من الجراءة والإقدام على السفسطة والمكابرة للحقائق، والمباهتة ما لا يخفى على من له أدنى معقول لم تغيره الآراء الخبيثة.

فلو قالوا: إن المادة والصناعة والاختراعات، وتطويع الأمور الطبيعية لم تنضج ولم تتم إلا في الوقت الأخيرº لصدقهم كل واحد. فإن العقول والعلوم الصحيحةº إنما تعرف ويستدل على كمالها، أو نقصها بآثارها وبأدلتها وغاياتها.

وانظر إلى الكمال والعلو في العقائد، والأخلاق، والدين، والدنيا، والرحمة، والحكمة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخذها عنه المسلمون وأوصلتهم وقت عملهم بها إلى كل خير ديني ودنيوي، وكل صلاح، وأخضعت لهم جميع الأممº وأنهم وصلوا إلى حالة وكمالº يستحيل أن يصل إليه أحد، حتى يسلك طريقهم.

ثم انظر إلى ما وصلت إليه أخلاق الماديين الإباحيين الذين أطلقوا السراح لشهواتهم، ولم يقفوا عند حدº حتى هبطوا بذلك إلى أسفل سافلين، ولولا القوة المادية تُمسكهم بعض التماسك لأردتهم هذه الإباحية والفوضى في الهلاك العاجل: {ولا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعمَلُ الظَّالِمُونَ... } [سورة إبراهيم 42].

ثم لولا بقايا من آداب الأديان بقيت بعض آثارها في الشعوب الراقية صلحت بها دنياهم لم يكن لرقيهم المادي قيمة عاجلةº فإن الذين فقدوا الدينº عجزوا كل العجز عن الحياة الطيبة، والراحة الحاضرة، والسعادة العاجلة، والمشاهدة أقوى شاهد لذلك.

ثم قد علم بالضرورة أن الرسل - عليهم السلام - جاءوا بالوحي، والهداية جملة وتفصيلاً، وبالنور والعلم الصحيح، والصلاح المطلق من جميع الوجوه، واعترفت العقول الصحيحة بذلك، وعلمت أنها في غاية الافتقار إليه، وخضعت لما جاءت به الرسل، وعلمت العقول أنها لو اجتمعت من أولها إلى آخرها لم تصل إلى درجة الكتب والحقائق النافعة التي جاءت بها الرسل، ونزلت بها الكتب، وأنه لولاها لكانت في ضلال مبين، وعمى عظيم وشقاء وهلاك مستمر، قال - تعالى -: {لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ, مُبِينٍ,} [سورة آل عمران: 164].

فالعقول لم تبلغ الرشد الصحيح، ولم تنضج إلا بما جاءت به الرسل، ومع ذلك انخداع أكثر الناس بالألفاظ التي يزوق بها الباطل، ويرد بها الحق من غير بصيرة، ولا علم صحيح، وذلك لتسميتهم علوم الدين، وأخلاقه العالية رجعية، وتسميتهم العلوم والأخلاق الأخر المنافية لذلك ثقافة وتجديداً.

ومن المعلوم لكل صاحب عقل سليم: أن كل ثقافة وتجديد لم يستند في أصوله إلى هداية الدين، وإلى توجهاتهº فإنه شر وضرر، عاجل وآجل.

ومن تأمل ما عليه حال من يسمون [المثقفين الماديين] من هبوط الأخلاق، والإقبال على كل ضار، وترك كل نافعº عرف أن الثقافة الصحيحة تثقيف العقول بهداية الرسل، وعلومهم الصحيحة.

ومن تأمل ما جاء به الدين الإسلامي من الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً عرف أنه لا صلاح للبشر إلا بالرجوع إلى هدايته وإرشاده، وأنه كما أصلح العقائد والأخلاق والأعمالº فقد أصلح أمور الدنيا، وأرشد إلى كل ما يعود إلى الخير والنفع العام والخاص، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

-------------------

من كتاب: [الإيمان: حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة] مراجعة وتقديم الشيخ / عبد الرحمن بن صالح المحمود، إعداد الشيخ/عبد الله بن عبد الحميد الأثري.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply