وتوبوا إلى الله جميعا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

للأزمات أثرها في شعور الناس بضعفهم وعجزهم، يصاحب ذلك تطلع إلى الخلاص، فإذا المرء يتلفت عن يمينه وشماله بحثاً عن مخرج، فهناك تتجه النفوس إلى خالقها، حتى إن المشركين إذا مسهم الضرّ دعوا الله مخلصين له الدين!

 

تلك الفرصة السانحة من إقبال القلوب على الله - تعالى - هي مفتاح الفرج، إذا ما أُحسن استثمارها بابتداء عملية مراجعة شاملة للنفس، مع صدق العزم على المضي في التغيير الجاد الذي جعله الله شرط تغيرٌّ الأحوال: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد: 11].

 

ولمسيس حاجة الأمة ـ أفراداً وجماعات ـ إلى المراجعة والتوبة، وخاصة في مثل هذه الظروف العصيبة.. جاء هذا المقال، أسأل الله أن ينفع به.

 

(*) حقيقة التوبة:

التوبة: رجوع العبد إلى ربه - تعالى -º بفعل الطاعة واجتناب المعصية، ومفارقة طريق المغضوب عليهم والضالين. فهي رجوع عما تاب منه العبد إلى ما تاب إليه.

 

فالتوبة المشروعة هي: الرجوع إلى الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الناس، ولا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من الفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، فأكثر الخلق يتركون كثيراً مما أمرهم الله به من الأقوال والأعمال، وقد لا يعلمون أن ذلك مما أُمروا به، أو يعلمون الحق ولا يتبعونه، فيكونون: إما ضالينº بترك العلم النافع، وإما مغضوباً عليهمº بالإعراض عن الحق بعد معرفته.

 

(*) منزلتها:

وردت العديد من النصوص التي تبين فضل التوبة وعظم منزلتها، ومن ذلك أنها:

1- سبب لنيل محبة الله - عز وجل -: كما قال - تعالى -: {إنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبٌّ الـمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]º إذ في التوبة تقرب من الله - تعالى - بالإقدام على الطاعة واجتناب المعصية، وذلك عن طريق الظفر بحب الله، كما جاء في الحديث القدسي أنه - عز وجل - قال: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه»(1).

 

2- سبب للفلاح في الدنيا والآخرة: كما قال الله - عز وجل - : {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا الـمُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [النور: 31]، ومن دلائل ذلك حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساًº فهل له من توبة؟ قال: لا. فقتله فكمَّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفسº فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله. وقالت: ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجوده إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة»(2)، فهذا الرجل لم يعمل خيراً قط لكن حين تاب أفلح وسعد.

 

3- سبيل عدم الخوض في الظلم: كما قال الله - عز وجل - : {وَمَن لَّم يَتُب فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الحجرات: 11]. قال ابن القيم: «قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ (هناك) قسم ثالث ألبتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه، وآفات عمله»(3).

 

4- سبب لتكفير السيئات ودخول الجنات: كما قال - عز وجل - : {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبٌّكُم أَن يُكَفِّرَ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيُدخِلَكُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ يَومَ لا يُخزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8].

 

وقال - عز وجل - : {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذٌّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَم يُصِرٌّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِم وَجَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعمَ أَجرُ العَامِلِينَ} [آل عمران: 135 - 136]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتق الله حيث ما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»(5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمسحها»(6). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة. فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقاتل هذا في سبيل الله - عز وجل - فيُستشهد، ثم يتوب الله على القاتل فيُسلم، فيقاتل في سبيل الله - عز وجل - فيُستشهد»(7).

 

5 - سبب لتبديل السيئات حســنات: كما قال الله - عز وجل -: {إلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِـحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ, وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70]، وعن أبي طويلٍ, ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا دَاجَة إلا أتاهاº فهل لذلك من توبة؟ قال: فهل أسلمت؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن. قال: وغدراتي وفجراتي. قال: نعم. قال: الله أكبر. فما زال يكبر حتى توارى»(8).

 

6 - سببٌ لسلامة القلب ونقائه: فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا أخطأ نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نَزَع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله {كَلاَّ بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكسِبُونَ} [المطففين: 14]»(9).

 

7 - سبب لتحصيل دعاء الملائكة واستغفارهم: كما قال - عز وجل - حكاية عن الملائكة أنهم يدعون الله قائلين: {فَاغفِر لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِم عَذَابَ الـجَحِيمِ} [غافر: 7].

 

(*) الترغيب في التوبة:

وردت العديد من النصوص التي تأمر بالتوبة وترغب فيها، ومن ذلك:

1 - قول الله - عز وجل -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8].

 

2 - وقوله - تعالى -: {وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيٌّهَا الـمُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ} [النور: 31].

3 - وقوله - سبحانه - : {أَفَلا يَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَستَغفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 74].

4 - وقوله - تعالى -: {قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَّحمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

5 - وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»(1).

6- وعن رفاعة الجهني ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply