بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن من أعظم أمراض القلوب طول الأمل، فما معناه؟ وما هي أضراره؟ وكيف نتخلص منه؟
معنى طول الأمل:
إن طول الأمل هو الاستمرار في الحرص على الدنيا ومداومة الانكباب عليها مع كثرة الإعراض عن الآخرة.
وفي تفسير قوله تعالى: (ويُلهِهِمُ الأَملُ) [الحجر: 3] يقول القرطبي - رحمه الله -: أي يشغلهم عن الطاعة، و قال ابن حجر: وفي الأمل سر لطيف لأنه لولا الأمل ما تهني أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، وإنما المذموم منه الاسترسال فيه، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته، وسبب طول الأمل الجهل وحب الدنيا.
طول الأمل مذموم في القرآن:
تعددت في كتاب الله الآيات التي تذم طول الأمل، وتنوعت الأساليب التي ينفر بها القرآن من ذلك الداء العضال والمرض الفتاك، ومن ذلك قوله تعالى: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) [الحجر: 2-3] وقوله - سبحانه - عن اليهود: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) سورة البقرة: 96، وقوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) [المؤمنون 112-115] وقال تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) [الحديد: 16].
وفي سنة رسول الله:
لقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من الاسترسال مع الآمال الملهية عن طاعة رب العباد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلي الله علية وسلم يقول: \" لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنين: في حب الدنيا، وطول الأمل \" [رواه البخاري].
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطوطا فقال: \"هذا الأمل وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب\" رواه البخاري.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: خط النبي - صلى الله علية وسلم - خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً عنه، وخط خططاً صغاراً إلي هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: \"هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا\" رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أخذ رسول الله - صلى الله علية وسلم - بمنكبي فقال: \"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل\"، وكان ابن عمر يقول: \"إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك\". [رواه البخاري].
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله علية وسلم - لرجل وهو يعظه: \"اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك\". [رواه الحاكم وقال: علي شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: \" بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غني مطغياً أو مرضا مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتا مجهزاً أو الدجال فشر غائب منتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمرٌّ؟! \" [رواه الترمذي] وقال حديث حسن ولما سئل رسول الله - صلى الله علية وسلم - عن صحف موسي - عليه السلام - قال: \"كانت عبراً كلها، عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبت لمن رأي الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل\" [رواه البيهقي والبزار].
والسلف يحذرون من طول الأمل:
علم السلف - رضي الله عنهم - حقيقة الدنيا وتعلقت قلوبهم بالآخرة ونصحوا لمن جاء بعدهم، فحذروا من الركون إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة.
قال علي - رضي الله عنه -: \" إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوي وطول الأمل، فأما اتباع الهوي فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة \" وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: \"لا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل، فإن كل ما هو آت قريب، ألا وإن البعيد ليس آتيا \"، وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: \"ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني، مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس يغفل عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راض؟ \".
ودخل رجل على أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - فجعل يقلب بصره في بيته فقال: \"يا أبا ذر، أين متاعكم؟! قال: إن لنا بيتاً نتوجه إليه، فقال: \"إنه لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا \"، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا هاهنا \".
وروي عن المسيح - عليه السلام - أنه قال: \"من ذا الذي يبني على موج البحر داراً؟ تلكم الدنيا فلا تتخذونها قراراً\".
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: \"لا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم فإنه والله ما بسط أملاً من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه ولا يمسي بعد صباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا \".
قال أبو محمد بن علي الزاهد: \"خرجنا في جنازة بالكوفة وخرج فيها داود الطائي: فانتبذ وقعد ناحية وهي تدفن، فجئت فقعدت قريباً منه فتكلم فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب واعلم أن أهل الدنيا جميعاً من أهل القبور إنما يندمون علي ما يخلفون ويفرحون بما يقدمون فما ندم عليه أهل القبور، أهل الدنيا عليه يقتتلون، وفيه يتنافسون وعليه عند القضاء يختصمون \" وقال الغزالي: لقد قصم الموت رقاب الجبابرة، وكسر ظهر الأكاسرة وقصر آمال القياصرة الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة، حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم في الحافرة - فانظر هل وجدوا من الموت حصناً وعزاً، وقال البعض: كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومنتظر غداً لا يبلغه لو أدركتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره، وقالوا: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وعمره يقوده إلي أجله، وحياته تقوده إلي موته\".
وقيل لمحمد بن واسع: كيف تجدك؟ قال قصير الأجل، طويل الأمل، مسيء العمل.
و كتب رجل إلى أخ له: \"إن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنقص في كل يوم منه نصيب، وللبلاء في جسمه دبيب، فبادر قبل أن تنادي بالرحيل، والسلام\".
مضار طول الأمل:
إن طول الأمل يدفع إلى المعاصي، ويبعد عن الطاعات، وهو من أسباب انتهاك الحرمات والتعدي على الآخرين وسلب حقوقهم، فأثبت أجلك بين عينيك، واستحي من الله حق الحياء.
ما العلاج؟!!
إن الجهل وحب الدنيا هما سبب طول الأمل فالعلاج يكمن في العلم بخطورة ومضار طول الأمل، وقيمة طاعة الوقت وأن التسويف يورد صاحبه موارد الهلكة وأن العبد يجب أن يكون حيث أمره مولاه وأن يحذر أن يراه حيث نهاه. وينبغي أن يكون شعار الواحد منا كما كان شعار حاتم الأصم إذ يقول: \"...وعلمت أن عملي لن يعمله غيري فأنا مشغول به، ورأيت الناس ينظرون إلى ظاهري والله ينظر إلى باطني فعلمت أن مراقبته أولى وأحرى، ورأيت الموت يأتي بغتة فقلت أبادره\".
والفارق كبير بين الرجاء وطول الأمل، فمن رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه فأين هذا من طول الأمل الذي آل بك لعدم الاستعداد لأمر الآخرة؟. وعلى العبد الذي يطلب العلاج أن يعرف حقيقة هذه الدار وأنها حقيرة وإلى كل نذل أميل، والأصل أن تلقاك بكل ما تكره فإذا لاقتك بما تحب فهو استثناء.
دخل ابن السماك على هارون الرشيد فقال له الرشيد: عظني- وكان بيده شربة ماء- فقال له: يا أمير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم قال: يا أمير المؤمنين لو شربتها وحبست عن الخروج أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم، فقال له الأخير: فملك لا يساوي شربة ولا بولة.
قال الفضيل ابن عياض: جعل الخير كله في بيت واحد وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا، وجعل الشر كله في بيت واحد وجعل مفتاحه حب الدنيا.
وقيل: إن الدنيا مثل ظل الإنسان إذا طلبته فرّ وإن تركته تبعك، فقل لنفسك أين الأولون والآخرون؟ أين الذين ملأوا ما بين الخافقين فخراً وعزاً؟ أين الذين فرشوا القصور حريراً وخزاً؟ أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزاً هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟ أفناهم الله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم وأخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور فأصبحوا الأسرى إلى مساكنهم، لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا، أسلمهم الأحياء والأولياء، وهجرهم الإخوان والأصفياء، ونسيهم الأقرباء والبعداء، وكأن الموت فيها على غيرنا كتب وكأن الحق فيها علي غيرنا وجب وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قريب إلينا راجعون ونأكل تراثهم كأنا بعدهم مخلدون. فيا قومنا: عمرُّوا الدنيا بطاعة ربكم وأقيموا الحياة على منهاج النبوة ولسان حالكم ينطق: (وعجلت إليك ربِّ لترضي).
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد