العزلة ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

20- قال أبو سليمان: قوله \"المرء على دين خليله\" معناه: أن لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانتهº فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه، ولا تُغَرِّر بدينك، ولا تخاطر بنفسك، فَتُخالِلَ من ليس مرضياً في دينه ومذهبه.

قال سفيان بن عيينة: وقد رُوي في هذا الحديث \"انظروا إلى فرعون معه هامان، انظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه، انظروا إلى سليمان بن عبد الملك صحبه رجاء بن حيوةº فقومه وسدده\".

 

ويقال: إن الخلة مأخوذة من تخلل المودة القلب، وتمكنها منه، وهي أعلى درج الإخاءº وذلك أن الناس في الأصل أجانب، فإذا تعارفوا ائتلفوا، فهم أَوُدَّاء، وإذا تشاكلوا فهم أحباء، فإذا تأكدت المحبة صارت خلة. ص71 - 72

 

21- أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرنا محمد بن مكي قال: حدثنا الصائغ قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح، عن سالم بن غيلان، عن الوليد بن قيس، عن أبي سعيد الخدري عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: \"لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي\".

 

قال أبو سليمان: قوله- صلى الله عليه وسلم -لا يأكل طعامك إلا تقي إنما أراد به طعام الدعوة دون طعام الحاجةº ألا تراه يقول - تعالى - ذكره -: [وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً] الإنسان: 8.

 

ومعلوم أن أسراهم الكفار دون المؤمنين ودون الأتقياء من المسلمين، وإنما وجهُ الحديث ومعناه: لا تَدعُ إلى مؤاكلتك إلا الأتقياءº لأن المؤاكلة توجب الألفة، وتجمع بين القلوب. ص72

 

22- أخبرنا أبو سليمان قال: حدثنا الكراني قال: حدثني ابن شبيب قال: حدثني المنقري، عن الأصمعي قال: قال أعرابي: عداوة الحليم أقل ضرراً عليك من مودة الجاهل.

 

وفي هذا لبعض الشعراء:

 

ولأن يعادي عاقلاً خيرٌ له * من أن يكون له صديقٌ أحمق

فارغب بنفسك أن تصادق جاهلاً * إن الصديق على الصديق مصدق  ص75

 

23- أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني ابن أبي الدق قال: حدثنا محمد ابن المنذر قال: حدثنا محمد بن إدريس قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي عطية الحمصي، عن الحطاب بن المعلى المخزومي أنه وعظ ابنه فقال: إياك وإخوان السوءº فإنهم يخونون من رافقهم، ويخرفون من صادقهم، وقُربُهم أعدى من الجرب، ورَفضُهم من استكمال الأدب، والمرء يُعرف بقرينه.

 

قال: والأخوان اثنانº فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاءº فاحفظ صديق البلية وتجنب صديق العافيةº فإنهم أعدى الأعداء.

 

وفي هذا قول الشاعر:

 

وكل خليل بالهوينا ملاطف * ولكنما الإخوان عند النوائب

ص75 - 76

 

24- أخبرنا أبو سليمان قال: حدثنا ابن الزيبق قال: حدثنا موسى بن زكريا التٌّستَري قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا العتبي قال: كنا عند سفيان بن عيينة فتلا هذه الآية: [وَمَا مِن دَابَّةٍ, فِي الأَرضِ وَلا طَائِرٍ, يَطِيرُ بِجَنَاحَيهِ إِلا أُمَمٌ أَمثَالُكُم] الأنعام: من الآية38.

 

وقال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من شبه البهائمº فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي لها الطعام الطيب عافته فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل عن نفسه، أو حكا خطأ غيره تروَّاه وحفظه.

 

قال أبو سليمان: ما أحسن ما تأول أبو محمد - رحمة الله عليه - هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمةº وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله - تعالى - عن وجود المماثلة بيننا وبين كل دابة وطائر، وكان ذلك ممتنعاً من جهة الخلقة والصورة، وعدماً من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون مصرفاً إلى المماثلة في الطباع والأخلاق، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم - يا أخي - أنك إنما تعاشر البهائم والسباعº فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك. ص84

 

25- قال أبو سليمان: وسأفيدك فائدة - يا أخي - يجل نفعهاº ويعظم عائدتُها، وما أقولها إلا عن ودٍّ, لك، وشفقة عليكº فإن البلوى في معاشرة أهل زمانك عظيمةº فاستعن بها على ما يلقاك من أذاهمº فإنك لا تخلو من قليله وإن سلمت من كثيره، وذلك أنك قد ترى الواحد بعد الواحد منهم يتكالب على الناس، ويتسفَّه على أعراضهم، وينبح فيها نباح الكلب، فيهمك من شأنه ما يهمك، ويسوؤك منه ما يسوؤك أن لا يكون رجلاً فاضلاً يرجى خيره ويؤمن شرهº فيطول في أمره فكرك، ويدوم به شغل قلبكº فأزح هذا العارض عن نفسكº بأن تعده على الحقيقة كلباً خِلقَةً، وزد به في عدد الكلاب واحداً، ولعلك قد مررت مرة من المرار بكلب من الكلاب ينبح ويعوي، وربما كان -أيضاً- قد يساور ويعض فلم تحدث نفسك في أمره بأن يعود إنساناً ينطق ويسبحº فلا تتأسف له ألا يكون دابة تركب، أو شاة تحلب، فاجعل أيضاً هذا المتكلب كلباً مثله واسترح من شغله، واربح مؤونة الفكر فيه، وكذلك فليكن عندك منزلة من جهل حقك وكفر معروفكº فاحسبه حماراً، أو زد به في عدد العانة(1) واحداً، فبمثل هذا تخلص من آفة هذا الباب وغائلته، والله المستعان. ص8 -87.

 

26- أخبرنا أبو سليمان قال: حدثني محمد بن منصور قال: حدثنا شكر قال: حدثنا أحمد بن بكر بن سيف المروزي قال: قال: حدثنا محمد بن الحسين، عن أبي زكريا، قال: كان أعرابي بالكوفة وكان له صديق، فكان يظهر له مودة ونصيحة، فاتخذه الأعرابي من عدده للنوائب، فأتاه فوجده بعيداً مما كان يظهر له، فأنشأ يقول:

 

إذا كان ود المرء ليس بزائد *** على مرحباً أو كيف أنت وحالكا

ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً *** فَأُفٍّ, لِودٍّ, ليس إلا كذلكا

لسانك معسولٌ ونفسك بشةٌ *** وعند الثريا من صديقك مالُكا

فأنت إذا همَّت يمينُكَ مرة *** لتفعل خيراً قابلتها شمالكا

 

ص94

 

27- قال وأنشدني عبد العزيز بن عبد الله لمحمد بن حازم:

 

وإن من الإخوان إخوانَ كشرةٍ, * وإخوانُ حياك الإلهُ ومرحبا

وإخوانَ كيف الحالُ والأهلُ كلٌّه * وذلك لا يَسوي نقيراً مترَّبا

جواداً إذا استغنيت عنه بماله * يقول إلي القرضَ والقرضَ فاطلبا

فإن أنت حاولت الذي خلف ظهره * وجدت الثريا منه في البعد أقربا

 

 ص94 - 95

 

28- قال أبو سليمان: حدثنا إبراهيم بن فراس، حدثنا أحمد بن علي بن سهل قال: حدثنا العباس بن الحسين قال: أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تتمثل بهذين البيتين:

 

ذهب الذين يعاش في أكنافهم * وبقيت في خَلف كجلد الأجرب

يتحدثون مخانة وملاذة * ويعاب قائلهم وإن لم يشغب

 

قال أبو معاوية: قالت عائشة - رضي الله عنها -: ويح لبيد لو أدرك هذا الزمان.

 

قال عروة: وكيف لو عاشت عائشة - رضي الله عنها - إلى هذا الزمان.

 

قال هشام: فكيف لو بقي عروة إلى هذا الزمان.

 

وقال أبو معاوية: فكيف لو بقي هشام إلى هذا الزمان.

 

وقال العباس بن الحسين: نحو ذلك.

 

وقال أحمد بن علي: وقال ابن فراس مثله. ص103.

 

29- أ خبرنا أبو سليمان قال: أخبرني محمد بن الحسين بن عاصم قال: أخبرني محمد ابن الربيع بن سليمان، وابن حوص قالا: سمعنا يونس ابن عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي - رحمة الله عليه -: يا أبا موسى رضاء الناس غاية لا تدرك، ليس إلى السلامة من الناس سبيلº فانظر ما فيه صلاح نفسكº فالزمه، ودع الناس وما هم فيه. ص 113.

 

----------------------------------------

[1]- يقصد بالعانة: الحمير.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply