بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم بأن الجنائز عبرة للبصير، وفيها تنبيه وتذكير لأهل الغفلة، فإنها لا تزيدهم مشاهدتها إلا قساوة، لأنهم يظنون أنهم أبداً إلى جنازة غيرهم ينظرون، ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون. أو يحسبون ذلك، ولكنهم على القرب لا يقدرون، ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا كانوا يحسبون، فبطل حسبانهم، وانقرض على القرب زمانهم، فلا ينظر عبد إلى جنازة إلا ويقدر نفسه محمولاً عليها، فإنه محمول عليها على القرب، وكأن قد، ولعله في غد أو بعد غد. ويروى عن أبي هريرة أنه كان إذا رأى جنازة قال: امضوا فإنا على الأثر. وكان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة، وغفلة سريعة، يذهب الأول والآخر لا عقل له. وقال أسيد بن حضير: ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو منقول به وما هو صائر إليه. ولما مات أخو مالك بن دينار خرج مالك في جنازته يبكي ويقول: والله لا تقر عيني حتى أعلم ماذا صرت إليه، ولا أعلم ما دمت حياً. فهكذا كان خوفهم من الموت.
والآن لا تنظر إلى جماعة يحضرون جنازة إلا وأكثرهم يضحكون ويلهون، ولا يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته ولا يتفكر أقرانه وأقاربه إلا في الحيلة التي بها يتناول بعض ما خلفه. ولا يتفكر واحد منهم إلا من شاء الله في جنازة نفسه وفي حاله إذا حمل عليها، ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلوب بكثرة المعاصي والذنوب حتى نسينا الله - تعالى - واليوم الآخر، والأهوال التي بين أيدينا، فصرنا نلهو ونغفل ونشتغل بما لا يعنينا. فنسأل الله - تعالى - اليقظة من هذه الغفلة. فإن أحسن أحوال الحاضرين على الجنائز بكاؤهم على الميت، ولو عقلوا لبكوا على أنفسهم لا على الميت. نظر إبراهيم الزيات إلى أناس يترحمون على الميت فقال: لو ترحمون على أنفسكم لكان خيراً لكم، إنه نجا من أهوال ثلاثة: وجه ملك الموت وقد رأى، ومرارة الموت وقد ذاق، وخوف الخاتمة وقد أمن.
وقال أبو عمرو بن العلاء: جلست إلى جرير وهو يملي على كاتبه شعراً، فاطلعت جنازة فأمسك وقال: شيبتني والله هذه الجنائز، وأنشأ يقول:
تروعنا الجنائز مقبلات **** ونلهو حين تذهب مدبرات
كروعة ثلة لمغار ذئب **** فلما غاب عادت راتعات
فمن آداب حضور الجنائز التفكر والتنبه والاستعداد والمشي أمامها على هيئة التواضع.
ومن آدابه حسن الظن بالميت، وإن كان فاسقاً، وإساءة الظن بالنفس وإن كان ظاهرها الصلاح، فإن الخاتمة خطيرة لا ندري حقيقتها.
قال الضحاك قلت: \"يا رسول الله من أزهد الناس؟ قال: من لم ينس القبر والبلى، وترك فضل زينة الدنيا. وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعد غداً من أيامه، وعد نفسه من أهل القبور.
وقيل لعلي - كرم الله وجهه -: ما شأنك جاورت المقبرة؟ قال: إني أجدهم جيران، إني أجدهم جيران صدق يكفون الألسنة، ويذكرون الآخرة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه\".
وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك وقيل له تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفت على قبر؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد\". رواه الترمذي.
وقيل: إن عمرو بن العاص نظر إلى المقبرة فنزل وصلى ركعتين، فقيل له: هذا شيء لم تكن تصنعه، فقال: ذكرت أهل القبور وما حيل بينهم وبينه، فأحببت أن أتقرب إلى الله بهما.
وقال مجاهد أول ما يكلم ابن آدم حفرته تقول: أنا بيت الدود، وبيت الوحدة، وبيت الغربة، وبيت الظلمة، هذا ما أعددت لك فما أعددت لي؟. وقال أبو ذر: ألا أخبركم بيوم فقري: يوم أوضع في قبري.
وكان أبو الدرداء يقعد إلى القبور، فقيل له في ذلك، فقال: أجلس إلى قوم يذكروني معادي، وإذا قمت لم يغتابوني. وكان جعفر بن محمد يأتي القبور ليلاً ويقول: يا أهل القبور مالي إذا دعوتكم لا تجيبوني ثم يقول: حيل والله بينهم وبين جوابي وكأني بي أكون مثلهم، ثم يستقبل الصلاة إلى طلوع الفجر.
وقال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: يا فلان، لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به، ولرأيت بيتاً تجول فيه الهوام، ويجري فيه الصديد، وتخترقه الديدان مع تغير الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة، وطيب الريح، ونقاء الثوب. قال: ثم شهق شهقة خر مغشياً عليه. وكان يزيد الرقاشي يقول: أيها المقبور في حفرته والمتخلي في القبر بوحدته، المستأنس في بطن الأرض بأعماله، ليت شعري بأي أعمالك استبشرت، وبأي إخوانك اغتبطت، ثم يبكي حتى يبل عمامته، ثم يقول: استبشر والله بالأعمال الصالحة، واغتبط والله بإخوانه المتعاونين على طاعة الله - تعالى -.
وكان إذا نظر إلى القبور خار كما يخور الثور. وقال حاتم الأصم: من مر بالمقابر فلم يتفكر لنفسه، ولم يدع لهم، فقد خان نفسه وخانهم.
وكان بكر العابد يقول: يا أماه ليتك كنت بي عقيماً، إن لابنك في القبر حبساً طويلاً، ومن بعد ذلك منه رحيلاً.
وقال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم دعاك ربك إلى دار السلام، فانظر من أين تجيبه، إن أجبته من دنياك، واشتغلت بالرحلة إليه دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها.
وكان الحسن بن صالح إذا أشرف على المقابر يقول: ما أحسن ظواهرك إنما الدواعي في بواطنك. وكان عطاء السلمي إذا جن عليه الليل خرج إلى المقبرة ثم يقول: يا أهل القبور متم فواموتاه، وعاينتم أعمالكم فواعملاه، ثم يقول: غداً عطاء في القبور، غداً عطاء في القبور، فلا يزال ذلك دأبه حتى يصبح. وقال سفيان: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده في حفرة من حفر النار. وكان الربيع بن خثيم قد حفر في داره قبراً، فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع ومكث ما شاء الله ثم يقول: \"رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت\" يرددها ثم يرد على نفسه، يا ربيع قد ارجعتك فاعمل. وقال أحمد بن حرب: تتعجب الأرض من رجل يمهد مضجعه، ويسوي فراشه للنوم، فتقول: يا ابن آدم لم لا تذكر طول بلاك وما بيني وبينك شيء. وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل علي فقال: يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلى، وأصابت الهوام مقيلاً من أبدانهم، ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله.
وقال ثابت البناني: دخلت المقابر فلما قصدت الخروج منها إذا بصوت قائل يقول: يا ثابت لا يغرنك صموت أهلها فكم من نفس مغمومة فيها: قال مالك بن دينار: مررت بالمقبرة فأنشأت أقول:
أتيت القبور فناديتها **** فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسطانه **** وأين المزكى إذا ما افتخر
تفانوا جميعا فما مخبر **** وماتوا جميعا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى**** فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا**** أما لك فيما مضى معتبر
يا بن آدم: تناجيك أجداث وهن صموت **** وسكانها تحت التراب خفوت
أجامع الدنيا لغير بلاغة **** لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
الحبيب من الأحباب مختلس **** لا يمنع الموت بواب ولا حرس
فكيف تفرح بالدنيا ولذتها **** يا من يعد عليه اللفظ والنفس
أصبحت يا غافلاً في النقص منغمساً **** وأنت دهرك في اللذات منغمس
لا يرحم الموت ذا جهل لغرته **** ولا الذي كان منه العلم يقتبس
كم أخرس الموت في قبر وقفت به **** عن الجواب لساناً ما به خرس
قد كان قصرك معموراً له شرف **** فقبرك اليوم في الأجداث مندرس
وقف محمد بن سليمان على قبر ولده فقال: اللهم إني أصبحت أرجوك له وأخافك عليه، فحقق رجائي وآمن خوفي.
ووقف أبو سنان على قبر ابنه فقال: اللهم إني قد غفرت له ماوجب لي عليه، فاغفر له ماوجب لك عليه، فإنك أجود وأكرم. ووقف أعرابي على قبر ابنه فقال: اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه من بري، فهب لي ما قصر فيه من طاعتك.
مر أحد الصالحين بامرأة تكثر من الحمد لله وتسترجع تقول: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون، فسألها ماذا بك يا أمة الله؟ فقالت له: يا عبد الله إني لفي حزن ما يشركني فيه أحد. قال: فكيف؟ قالت: إن زوجي ذبح شاة في يوم عيد الأضحى، وكان له صبيان مليحان يلعبان، فقال أكبرهما للآخر: أتريد أن أريك كيف ذبح أبي الشاة؟ قال: نعم، فأخذه وذبحه وما شعرنا به إلا متشحطاً في دمه.فلما ارتفع الصراخ هرب الغلام، فلجأ إلى جبل، فرهقه ذئب فأكله، وخرج أبوه يطلبه فمات عطشاً من شدة الحر.قالت:فأرداني الدهر كما ترى.
نقلا من كتاب أصحاب النفوس المطمئنة للشيخ عبد الحميد كشك (- رحمه الله -)
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد