حتى يأتيك اليقين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بالأمس كنا في شهر رمضان، يحرم علينا في نهاره تناول كل أنواع المفطرات، لنعبد الله بالصيام، والذي حرم علينا ذلك هو الله، واليوم هو أول يوم من شهر شوال، يحرم علينا فيه الصيام، لنعبد الله بتناول ما حرم علينا بالأمس، ولذا سمي يوم عيد الفطر، والذي حرم علينا صيام هذا اليوم هو الله.

 

وهنا تظهر الطاعة المطلقة لله، التي يستحق به عباد الله المؤمنون رحمته: ((والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة (71)].

 

ومعلوم أن الله - تعالى - ما خلقنا إلا لعبادته ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني)) [الذاريات (56)].

 

والأوقات كلها: الدقائق، والساعات، والأيام والليالي، والأسابيع والأشهر، والأعوام، كلها خلقها الله - تعالى - لنعبد الله فيها: ((وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا)) [الفرقان (62)].

ونحن مأمورون بالاستمرار في عبادة الله حتى نلقاه: ((واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)) [الحجر (99)].

 

بالأمس كان الصيام واجبا، وهو اليوم محرم، و يوم غد يكون مندوبا، روى أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر) [مسلم (1164)].

 

بالأمس كان آخر يوم من موسم شهر الصيام، واليوم هو أول يوم من أيام أشهر الحج: ((الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولي الألباب)) [البقرة (197)]

 

بالأمس كنا نتقرب إلى الله في ليالي رمضان بقيام الليل، وقيام الليل لا ينقطع بخروج شهر رمضان، بل هو مما داوم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وعباد الله الصالحون في كل الأزمان، كما قال - تعالى -: ((والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما)) [الفرقان(64)].

 

وقال - تعالى -: ((تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون)) [السجدة (16)].

 

وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يحث أصحابه على أن يحرصوا على قيام الليل، ليزدادوا من الخير الذي ترتفع به درجاتهم عند الله، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: \"رأيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن بيدي قطعة إستبرق، فكأني لا أريد مكانا من الجنة إلا طارت إليه، ورأيت كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار، فتلقاهما ملك، فقال: لَم تُرَع خليا عنه، فقصت حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى رؤياي\" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نِعمَ الرجلُ عبدُ الله لو كان يصلي من الليل) فكان عبد الله - رضي الله عنه - يصلي من الليل\" [البخاري، برقم (1105)].

 

كما كان يحذرهم من تثبيط الشيطان لهم عن قيام الليل، روى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: (ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقيل: ما زال نائما حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، فقال: (بال الشيطان في أذنه) [البخاري، برقم (1093) ومسلم، برقم 774].

 

وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكل عقدة يضرب عليك ليلا طويلا، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) [البخاري (1091) ومسلم، برقم (776)].

 

وكل ما يسخط الله في رمضان، من ترك واجب أو فعل محرم، يسخطه - تعالى - في غير شهر رمضان: فترك الصلاة المفروضة بغير عذر، و الشرك بالله، والحكم بغير ما أنزل الله، والزنا، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وشرب المسكر، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور، والكذب، والتجسس على الناس، للإطلاع على عوراتهم وهتك حرماتهم، وخيانة الأمانة، والظلم، وعدم نصر المظلوم مع القدرة على نصره.

 

كل ذلك وغيره مما جاء وجوبه أو تحريمه في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يأثم مرتكبه في غير رمضان، كما يأثم في رمضان، وإن كان ارتكابه في رمضان أشد جرما من غيره، لانتهاك حرمة شهر رمضان.

 

((والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67) والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً (68) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70) ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا)) (71) [الفرقان].

 

ولما كان الإنسان مكلفا بالاستمرار في عبادة الله في كل الأوقات، كثر في كتاب الله ذكر أجزاء الزمن، من ليل ونهار، وبكرة وعشي، وصبح وضحى، وفجر وعصر.

***************

 

كما يتكرر قسم الله - تعالى -، بالوقت أو ببعض أجزائه، للتنبيه على أهمية الوقت الذي يجب أن يملأه الإنسان بطاعة الله، ويجتنب فيه معصيته، ويكون جواب القسم ذكر فوز العبد أو خسارته، مثل قوله - تعالى -: ((والليل إذا يغشى)) إلى قوله ((إن سعيكم لشتى)) إلى قوله - تعالى -: ((فسنيسره للعسرى)) [سورة الليل 1-10].

 

وقوله - تعالى -: ((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) [سورة والعصر].

 

ولهذا يؤنب الله - تعالى - من حاربوا الله في الدنيا، مفرطين في زمن عمرهم، حتى لقوا الله وهم على ذلك، فيندمون ويطلبون من الله أن يعيدهم، إلى الدنيا ليتداركوا ما فرطوا فيه من أعمارهم، يؤنبهم الله - تعالى - على ذلك ويذكرهم بأنه قد منحهم من الوقت ما كان كافيا ليتذكروا ويعودوا إلى الله - تعالى -، كما قال - تعالى -: ((والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور (36) وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير)) (37) [فاطر].

 

ولما كان عمر الإنسان، هو الزمن الذي يقضيه في الدنيا، فإنه يسأل يوم القيامة عنه فيم أفناه، كما في حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما ذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه) [سنن الترمذي، برقم (2417) و قال: \"هذا حديث حسن صحيح\"].

 

فعلى المسلم أن يجتهد في طاعة ربه في كل الأوقات، فهو عبد الله في رمضان، وعبد الله في غير رمضان، وهو لربه - تعالى - في كل أوقاته: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين(163) [الأنعام].

 

وقد أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - [وأمره له أمر لأمته] أن يستمر في عبادته حتى يلقاه، كما قال - تعالى -: ((فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين(99) [الحجر].

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply