بسم الله الرحمن الرحيم
إن التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقربين، وهو في نفسه غامض من حيث العلم، ثم هو شاقُّ من حيث العمل، ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والتثاقل عنها بالكلية طعن في السنة وقدح في الشرع، والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسبابًا تغير في وجه العقل، وانغماس في غمرة الجهل، وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه بمقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر، ولا يَقوَى على كشف هذا الغطاء مع شدة الخفاء إلا العلماء الذين اكتَحلوا من فضل الله - تعالى - بأنوار الحقائق فأبصروا وتحقَّقوا، ثم نطقوا بالإعراب عما شاهدوه من حيث استنبطوا.
معنى التوكل:
قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب، ومعنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات.
ومنهم من يفسره بالسكون، وخمود حركة القلب فيقول: التوكل هو انطراح القلب بين يدي الربِّ، كانطراح الميت بين يدَي المغسل يقلبه كيف يشاء، وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار.
قال \"سهل\": التوكل: الاسترسال مع الله مع ما يريد، ومنهم مَن يفسره بالرضا، فيقول: هو الرضا بالمقدور.. قال \"بشر الحافي\": يقول أحدهم: توكلت على الله.. يكذب على الله، لو توكل على الله لرضِي بما يفعل الله.
وسُئل \"يحيى بن معاذ\": متى يكون الرجل متوكلاً؟ قال إذا رضي بالله وكيلاً، وقال \"أبو تراب النخشبي\": هو طرح البدن في العبودية، وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أُعطي شكر، وأن منع صبر.
فجعله مُركَّبًا من خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلق القلب بتدبير الرب، وسكونه إلى قضائه وقدره، وطمأنينته وكفايته له، وشكره إذا أعطي، وصبره إذا منع.
وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد، وقال \"سهل بن عبد الله\": من طعن في الحركة فقد طعن في السنَّة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي- صلى الله عليه وسلم - والكسب سنته، فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته، ومنهم من قال: التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله في استجلاب المصالح ودفع المضار في أمور الدنيا والآخرة.
منزلة التوكل:
إن منزلة التوكل منزلة عظيمة لا يبلغها إلا المخلصون الصادقون.. قال - تعالى - للمؤمنين: (وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ) (المائدة: 23)، وقال - تعالى -: (وَمَن يَّتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ) (الطلاق: 3)، وقال - تعالى - عن أوليائه: (رَّبَّنَا عَلَيكَ تَوَكَّلنَا وَإِلَيكَ أَنَبنَا وَإِلَيكَ المَصِيرُ) (الممتحنة: 4)، وقال - تعالى - لرسوله- صلى الله عليه وسلم -: (قُل هُوَ الرَّحمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيهِ تَوَكَّلنَا فَسَتَعلَمُونَ مَن هُوَ فِي ضَلاَلٍ, مٌّبِينٍ,) (الملك: 29)، وقال - تعالى -: (فَتَوَكَّل عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ) (النمل: 79)، وقال له: (وَتَوَكَّل عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً) (النساء: 81)، وقال له: (وَتَوَكَّل عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّح بِحَمدِهِ) (الفرقان: 58)، وقال - تعالى -: (فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبٌّ المُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)، وقال عن أنبيائه ورسله: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَد هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 12)، وقال - تعالى - عن أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبُنَا اللهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ) (آل عمران: 173).
التوكل نصف الدين:
قال الإمام ابن القيم- رحمه الله -: التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابةº فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار، والأبرار، والفجار، والطير، والوحش، والبهائم، فأهل السماوات والأرض- المكلفون وغيرهم- في مقام التوكل، وإن تباين متعلق توكلهم، فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابة وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغًا عن الناس.
ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه، من رزق أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة أو ولد، ونحو ذلك، ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش، فإنَّ أصحاب هذه المطالب لا ينالونَها غالبًا إلا باستعانتهم بالله، وتوكلهم عليه، بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك، معتمدين على الله أن يسلمهم، ويظفرهم بمطالبهم.
فأفضل التوكل التوكل في الواجب- أعني واجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس- وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم، ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف.
ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مرضيًا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطًا مبغوضًا كان ما حصل له بتوكله مضرَّةٌ علَيه، وإن كان مُباحًا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه، إن لم يستعن به على طاعاته.
التوكل من أعم المقامات تعلقًا بالأسماء الحسنى:
إن التوكل من أعمّ المقامات تعلقًا بأسماء الله الحسنى، فإن له تعلقًا خاصًا بعامة أسماء الأفعال، وأسماء الصفات، فله تعلق باسم الغفار، والتواب، والعفو، والرءوف، والرحيم وتعلق باسم الفتاح، والوهاب، والرزاق، والمعطي، والمحسن، وتعلق باسم المعز، والمذل، والحفيظ، والرافع، والمانع... من جهة توكله عليه في إذلال أعداء دينه، وخفضهم ومنعهم أسباب النصر، وتعلق بأسماء القدرة، والإرادة، وله تعلق عام بجميع الأسماء الحسنىº ولهذا فسره مَن فسره من الأئمة بأنه المعرفة بالله، وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد، يصح له مقال التوكل، وكلما كان بالله أعرف كان توكله عليه أقوى.
وكثير من المتوكلين يكون مغبونًا في توكله، وقد توكل حقيقة التوكل وهو مغبون، كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله، ويمكنه نيلها بأيسر شيء وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم، ونصرة الدين، والتأثير في العالم خبرًا، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة، كما يصرف بعضهم همته وتوكله ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف، أو نصف درهم، ويدع صرفه إلى نصرة الدين، وقمع المبتدعين، وزيادة الإيمان، ومصالح المسلمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد