القدرة على الحياة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول، وقد سمعنا ورأينا جماعة من الفطناء الكاملي العقل لعبت بهم الدنيا حتى صاروا كالمجانين. فوَلُوا الولايات فخرجوا إلى القتل والضرب والحبس والشتم وذهاب الدين، والمباشرة للظلم وذلك كله لأجل دنيا تذهب سريعاً.

 

وفي مدة إقامتها هي معجونة بالنغص. (1)

 

فيا أيها المرزوق عقلاً لا تبخسه حقه، ولا تطفئ نوره، واسمع ما نشير به، ولا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه.

 

فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغ جاهلاً فقيراً:

 

لا تسه عن أدب الصغيـ

   ـر لو شكا ألم التعب

 

ودع الكبير لشأنــــه

   كَبُرَ الكبير عن الأدب

 

وعلم أن زمان الابتلاء ضيف قِراهُ(2) الصبر، كما قال أحمد بن حنبل: إما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق المعاش، وعلل الناقة بالحدو تسير:

 

طاول بها الليل مال النجم أم جنحا

    وما طل النوم ضن الجفن أم سمحـا

 

فإن تشكت فعللها المجرة مـــن

    ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى(3).

 

وقد كان أهدي إلى أحمد حنبل هدية فردها، ثم قال سنة لأولاده: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت.

 

ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال البئر الأخرى فمر عليها فقال له الأخرى، ثم قال: كذا تقطع الدنيا.

 

ودخلوا إلى بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له ألا بذا تؤذي؟ فقال هذا أمر ينقضي.

 

وكان لداود الطائي دار يأوي إليها، فوقع سقف فانتقل إلى سقف إلى أن مات في الدهليز.

 

 فهؤلاء الذين نظروا في عواقب الأمور، وبعد هذا فلا أطالبك بهذه الرتبة، بل أقول لك: إن حصل لك شيء من المباح لا مَنَّ فيه ولا أذى ولا نلته بسؤال ولا من يد ظالم تعلم أن ماله حرام أو فيه شبهة، فافسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه، وكن مقداراً للنفقة غير مبذر.

 

فإن الحلال لا يحتمل السرف ومتى أسرفت احتجت إلى التعرض للخلق والتناول من الأكدار.

 

وإن ضاق بك أمر فاصبر، فإن ضعف الصبر فسل فاتح الأبواب.

 

فهو الكريم وعنده مفاتح الغيب.

 

وإياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق، أو بتقرب إلى الأمراء تستعطي أموالهم.

 

واذكر طريق السلف، كان ابن سمعون له ثياب يجلس فيها للناس ثم يطويها إلى المجلس الآخر ورثها عن أبيه بقيت أربعين سنة.

 

وكانت ميمونة بنت شاقولة تعظ الناس ولها ثياب قد بقيت أربعين سنة.

 

ومن صفا نظره وتهذب لفظه، نفع وعظه، ومن كدر كُدِّر عليه.

 

والحالة العالية في هذا إقبال القلب على الله - عز وجل -، والتوكل عليه والنظر إليه والتفات القلب عن الخلق.

 

فإن احتجت فسأله، وإن ضعفت فارغب إليه.

 

ومتى ساكنت الأسباب انقطعت عنه، ومتى استقام باطنك استقامت لك الأمور.

 

________________

(1) أي مختلطة بالكدر والمنغصات.

(2) القرى بكسر القاف ما يقدم للضيف.

(3) عللها المجرة: أي اربط أمنيتها بالمجرة بدلاً من ضوء الصباح لتشتد عزيمتها.

 المراجع أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، صيد الخاطر، ص 381-383

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply