وقفة مع الجموح


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جلست يوماً إلى طاولة المكتب أُقلِّب بعض الأوراق هنا وهناك، ثم إنني أخذت أُحرِّك القلم الذي في يدي وأعبثُ بهº وبينا أنا كذلك أَخَذَت تَعرِض لفكري أمور كثيرةº فلا يكاد الذهن يشتغل بفكرة إلاّ وينتقل إلى غيرها.

 

وفجأة...

 

إذا بشبحٍ, يتراءى لي، ويقفُ بين يديّ.

 

- أهذا أنتِ؟

 

قُلتُ لَها. فأجابت بغرور وهي شامخةُ الأنف، مُصَعِّرةُ الخَد:

 

- نعم! فماذا تريد؟ لقد كُنتَ تُفكِّر فيَّ منذُ هُنَيهة، أليس كذلك؟!

 

- بلى أنتِ مُحِقّةº فهناك أشياء أُحبٌّ أن أكلِّمَكِ بشأنِها.

 

أجابت وهي تَزُمٌّ شفيتها:

 

- إذن قُل أَسمع.

 

 قُلتُ لها:

 

- لقد أتعبتني، بل أهلكتني!

 

ردَّت متعجبة:

 

- وكيف ذاك؟!

 

اعتدلتُ في جلستي وقلت:

 

- إن طلبتكِ في مواطن الذكر لم أجدكِ، وإن أردت المعونة منك على خير ألفيتك كارهة مثبطةº تثقلين عن الصلاة، وتكرهين الصوم، ولا تصبرين على ترديد الأذكار.

 

وتسمعين من الآيات ما لو تُلِيَ على الصخر الأصمّ لَفَلَقَه، أو على الجبال لضَعضَعَهَا.

 

في الصلاة آيات،

 

ومن أفواه القراء آيات.

 

وليتك إذ غفلت عن تدبر الآيات أقمت باقي الصلاة بخشوع، بل حشفٌ وسوء كيلة!

 

وأنت مع كل ذلك راغبة في اللهو، ناشطة فيه.

 

إذا لاحت الدنيا تطيرين لها طيراناً، ويخفق لها قلبك، وتجتمعين عليها بكُليِّتكِ.

 

فأين العدل بالله عليكِ؟!

 

طأطأت رأسها وهي تفكر فيما قلته. فلما رأيت كبرياءها قد انكسرت أردفتُ قائلاً:

 

- وأين حفظكِ لحدود الله؟

 

تقترفين الذنب تلو الذنب وتقولين: صغيرة لا تضر!

 

وأنت تعلمين أن صغار العيدان إذا اجتمعت أنضجت اللحم.

 

فكم من نظرة لا تحلٌّ قَارَفتِهَا، وكم من كلام محرم أرخيتِ له سمعكِ، وكم من كلمة زل بها لسانكِ فلم تلقي لها بالاً!

 

ثم إنني سكت هُنَيهةً وأخذتُ أنظر في فعل حديثي معها، فلما رأيتها مُنصِتَة واجمة تابعت:

 

- ثم الطاعات التي عملتها، كم منها يسلم لك ِمن شائبة رياء أو عجب؟!

 

إن طلبتِ علماً فَلِتَبُزِّي به أقرانكِ، وليقال مثقفة!

 

وتزخرفين الألفاظ ليُقال مفوهة!

 

وإن دونتِ فائدة فليقال كاتبة!

 

وإن اشتغلتِ بعمل فليقال داعية!

 

وإن أطرقتِ فليقال خاشعة!

 

وقد قيل!!

 

يرى الناس عليك زينة الصالحين فيظنون أنك من أصلحهم وأتقاهم، وما صلح إلا الثوب!

 

وجوفك خرب، كنخلة تبدو للناظر سامقة باسقة، وقد امتلأ بطنها بالسوس والديدان.

 

ثمَّ أنت مع كل ما سبق ترجين مراتب الكبار، ومنازل السابقين المقربين، وجنات ونهراً، وحوراً عيناً، وأنهار الخمر والعسل!!

 

وإن هذا لعين الغرور، ولا يستوي الظل ولا الحرور(1)!

 

ثم إنني أخذت أنظر إلى وجهها وقد علاه الحزن والكآبة، وإذا هي تقول بصوت خفيض:

 

- أتوب!

 

- كم مرة قلتِ ذلك، ثم لا تلبثين أن تنقضي غَزلَكِ؟!

 

- أعدُكَ بأن تكون توبتي صادقة هذه المرة..

 

- قد قلتِ ذلك فيما مضى.

 

- وي.. ويلكَ! إن الله يتوب على من تاب.

 

- أجل هو يغفر لمن تاب - سبحانه -، ولكن ليس من تاب وحسب، بل {لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى}. [طه: 82]. -.....!

 

- يا نفسي! والله إني لأخاف عليكº فعذاب الله شديد، وأنت أول من أُمِرتُ بوقايته من النارº فهل من عزمة صادقة تقهرين بها هواك، وتغسلين بها عنك تلك الأقذار، حتى تنطلقي بعد ذلك في مدارج السالكين سبل السلام، العارفين بالله، السائرين إليه؟!

 

أجابت..

 

- أجل.. أفعل إن شاء الله.

 

- فليرحمك الله يا نفسي!

 

ثم إنني أخذت أرمقها وهي تبتعد متلاشية عن ناظرَيَّ.

 

-----------

 

(1) فمصير الصابرين المؤمنين لا يستوي ومصير العابثين اللاهين، كما أن الظل والحرور لا يستويان. وانظر تفسير ابن كثير لمزيد بيان للآيات (19 ـ 22) من سورة فاطر التي وردت فيها هذه المغايرة.

 

 

  

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply